فإن قلت : الضروري من القسم الأول التألم بفوات المحتاج إليه دون الغضب ، فمن له شاة مثلا ، وهي قوته فماتت لا يغضب على أحد ، وإن كان يحصل فيه كراهة على الفصاد ، والحجام ، فمن غلب عليه التوحيد حتى يرى الأشياء كلها بيد الله ومنه فلا يغضب على أحد من خلقه ; إذ يراهم مسخرين في قبضة قدرته كالقلم في يد الكاتب ، ومن وقع ملك بضرب رقبته لم يغضب على القلم فلا يغضب على من يذبح شاته التي هي قوته كما لا يغضب على موتها إذ يرى الذبح والموت من الله عز وجل ، فيندفع الغضب بغلبة التوحيد ، ويندفع أيضا بحسن الظن بالله ، وهو أن يرى أن الكل من الله تعالى ، وإن الله لا يقدر له إلا ما فيه الخيرة ، وربما تكون الخيرة في مرضه وجوعه ، وجرحه ، وقتله ، فلا يغضب كما لا يغضب على الفصاد والحجام لأنه يرى أن الخيرة فيه . وليس من ضرورة كل كراهة غضب فإن الإنسان ، يتألم بالفصد ، والحجامة ، ولا يغضب
فنقول : هذا على هذا الوجه غير محال ولكن غلبة التوحيد إلى هذا الحد إنما تكون كالبرق الخاطف تغلب في أحوال مختلفة ، ولا تدوم ويرجع القلب إلى الالتفات إلى الوسائط رجوعا طبيعيا لا يندفع عنه ولو تصور ذلك على الدوام لبشر لتصور لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه . كان يغضب حتى تحمر وجنتاه
حتى قال . اللهم أنا بشر أغضب كما يغضب البشر ، فأيما مسلم سببته ، أو لعنته ، أو ضربته فاجعلها مني صلاة عليه ، وزكاة ، وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص يا رسول الله أكتب عنك كل ما قلت في الغضب ، والرضا ? فقال : اكتب ; فوالذي بعثني بالحق نبيا ما يخرج منه إلا حق وأشار إلى لسانه فلم يقل إني لا أغضب ولكن قال : إن الغضب لا يخرجني عن الحق ، أي : لا أعمل بموجب الغضب رضي الله تعالى عنها مرة ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك جاءك : ؟ شيطانك ، فقالت وما لك ، شيطان قال : بلى ولكني ، دعوت الله ، فأعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بالخير عائشة ولم يقل لا شيطان لي ، وأراد شيطان الغضب ، لكن ، قال : لا يحملني على الشر وقال وغضبت رضي الله تعالى عنه : علي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغضب للدنيا ، فإذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد ، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له .
فكان يغضب على الحق ، وإن كان غضبه لله ، فهو التفات إلى الوسائط على الجملة ، بل كل من يغضب على من يأخذ ضرورة قوته ، وحاجته التي لا بد له في دينه منها ، فإنما غضب لله ; فلا يمكن الانفكاك عنه ، نعم ، قد يفقد أصل الغضب فيما هو ضروري إذا كان القلب مشغولا بضروري أهم منه ، فلا يكون في القلب متسع للغضب لاشتغاله بغيره ، فإن استغراق القلب ببعض المهمات يمنع الإحساس بما عداه .
وهذا كما أن سلمان لما شتم ، قال : إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول ، وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول ، فقد كان همه مصروفا إلى الآخرة ، فلم يتأثر قلبه بالشتم وكذلك شتم الربيع بن خثيم فقال يا هذا ، قد سمع الله كلامك ، وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول ، وإن لم أقطعها ، فأنا شر مما تقول وسب رجل أبا بكر رضي الله عنه ، فقال ما ستر الله عنك أكثر ، فكأنه كان مشغولا بالنظر في تقصير نفسه عن أن يتقي الله حق تقاته ، ويعرفه حق معرفته ، فلم يغضبه نسبة غيره إياه إلى نقصان ; إذ كان ينظر إلى نفسه بعين النقصان ، وذلك لجلالة قدره .
وقالت امرأة يا مرائي ، فقال : ما عرفني غيرك فكأنه كان مشغولا بأن ينفي عن نفسه آفة الرياء ، ومنكرا على نفسه ما يلقيه الشيطان إليه ، فلم يغضب لما نسب إليه وسب رجل الشعبي ، فقال : إن كنت صادقا فغفر الله لي ، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك . لمالك بن دينار