الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما العلاج العملي فهو التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين ، كما وصفناه وحكيناه من أحوال الصالحين ، ومن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه « كان يأكل على الأرض ويقول : « إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد » وقيل: لسلمان لم لا تلبس ثوبا جديدا، فقال: إنما أنا عبد، فإذا أعتقت يوما لبست جديدا أشار به إلى العتق في الآخرة ، ولم يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل؛ ولذلك أمر العرب الذين تكبروا على الله ورسوله بالإيمان وبالصلاة جميعا وقيل: الصلاة عماد الدين وفي الصلاة أسرار لأجلها كانت عمادا، ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائما، وبالركوع والسجود، وقد كان العرب قديما يأنفون من الانحناء فكان يسقط من يد الواحد منهم سوطه فلا ينحني لأخذه، وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه، حتى قال حكيم بن حزام بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائما فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم ثم فقه وكمل إيمانه بعد ذلك، فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا به لتنكسر ؛ بذلك خيلاؤهم ، ويزول كبرهم ، ويستقر التواضع في قلوبهم وبه أمر سائر الخلق ؛ فإن الركوع والسجود والمثول قائما هو العمل الذي يقتضيه التواضع ، فكذلك من عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقا فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعا ؛ وذلك لخفاء العلاقة بين القلوب والجوارح ، وسر الارتباط الذي بين عالم الملك وعالم الملكوت ، والقلب من عالم الملكوت .

التالي السابق


(وأما العلاج العملي فهو التواضع بالفعل لله) تعالى (ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين، كما وصفناه وحكيناه من أحوال) السلف (الصالحين، ومن أحوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إنه "كان يأكل على الأرض) ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير" رواه الطبراني من حديث ابن عباس (ويقول: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد") رواه الدارقطني في الأفراد، وابن عساكر من حديث البراء.

ورواه هناد في الزهد، عن الحسن مرسلا .

ورواه ابن عدي، وابن عساكر من حديث أنس بزيادة: "وأشرب كما يشرب العبد".

ورواه الديلمي من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- "أتي بهدية، فلم يجد شيئا يضعها عليه، فقال: دعها على الحضيض -يعني الأرض- ثم نزل فأكل، ثم قال: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد" وقد تقدم في كتاب آداب المعيشة .

(وقيل: لسلمان) الفارسي -رضي الله عنه- وقد رؤي عليه ثوب خلق: (لم لا تلبس ثوبا جديدا، فقال: إنما أنا عبد، فإذا اعتقت يوما لبست) وقد (أشار به إلى العتق في الآخرة) أي: إذا اعتقت من عذاب الآخرة لبست، وإنما استراح من غفر له، كما في حديث عائشة.

(ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل؛ ولذلك أمر العرب الذين تكبروا على الله ورسوله بالإيمان وبالصلاة جميعا) فالإيمان المعرفة، والصلاة العمل .

(وقيل: الصلاة عماد الدين) روى أبو نعيم الفضل بن دكين، شيخ البخاري، في كتاب الصلاة له، عن حبيب بن سليم، عن بلال بن يحيى قال: "جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الصلاة، فقال: الصلاة عمود الدين" وهو مرسل، ورجاله ثقات .

وروى الديلمي من حديث علي: "الصلاة عماد الإيمان" وعند الأصبهاني في الترغيب بلفظ: "الصلاة عماد الإسلام".

(وفي الصلاة أسرار لأجلها كانت عمادا، ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائما، وبالركوع والسجود، وقد كان العرب قديما يأنفون من الانحناء) ويعدوه من المهانة (فكان يسقط من يد الواحد منهم سوطه فلا ينحني لأخذه، وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه، حتى قال) أبو خالد (حكيم بن حزام) بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي، ابن أخي خديجة بنت خويلد، له حديث في [ ص: 394 ] الكتب الستة، وكان من سادات قريش، تأخر إسلامه -رضي الله عنه- حتى أسلم عام الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، وشهد حنينا، أعطي من غنائمها مائة بعير، ثم حسن إسلامه، مات سنة خمسين، وقيل: ستين، وهو ممن عاش مائة وعشرين سنة، شطرها في الجاهلية وشطرها في الإسلام، قاله ابن المنذر (بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن لا أخر قائما) رواه أحمد والنسائي، وفيه إرسال خفي .

(ثم فقه وكمل إيمانه بعد ذلك، فلما كان السجود عندهم هو منتهى المذلة والضعة أمروا به؛ لينكسر بذلك خيلاؤهم، ويزول كبرهم، ويستقر التواضع في قلوبهم) وتنتفي عيبة الجاهلية عنهم .

(وبه أمر سائر الخلق؛ فإن الركوع والسجود والمثول قائما هو العمل الذي يقتضيه التواضع، فكذلك من عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال فليواظب على نقيضه) فإن المعالجة لا تتم إلا بما يناقض الداء (حتى يصير التواضع له خلقا) راسخا (فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعا؛ وذلك لخفاء العلاقة بين القلب والجوارح، وسر الارتباط الذي بين عالم الملك وعالم الملكوت، والقلب من عالم الملكوت) كما تقدم في كتاب عجائب القلب. والله الموفق .




الخدمات العلمية