الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولنذكر الآن غرور الذين قنعوا من العلوم بما لا يهمهم ، وتركوا المهم وهم به مغترون إما لاستغنائهم عن أصل ذلك العلم ، وإما لاقتصارهم عليه .

فمنهم فرقة اقتصروا على علم الفتاوى في الحكومات والخصومات ، وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح العباد ، وخصصوا اسم الفقه بها ، وسموه الفقه ، وعلم المذاهب ، وربما ضيعوا مع ذلك الأعمال الظاهرة والباطنة ، فلم يتفقدوا الجوارح ، ولم يخرسوا اللسان عن الغيبة ولا البطن عن الحرام ولا الرجل عن المشي إلى السلاطين وكذا سائر الجوارح ، ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والحسد والرياء ، وسائر المهلكات .

فهؤلاء مغرورون من وجهين :

أحدهما من حيث العمل .

والآخر من حيث العلم .

أما العمل فقد ذكرنا وجه الغرور فيه ، وأن مثالهم مثال المريض إذا تعلم نسخة الدواء ، واشتغل بتكراره وتعليمه لا بل مثالهم مثال من به علة البواسير والبرسام وهو مشرف على الهلاك ، ومحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله ، فاشتغل بتعلم أدواء الاستحاضة ، وبتكرار ذلك ليلا ونهارا مع علمه بأنه رجل لا يحيض ، ولا يستحاض ، ولكن يقول ربما تقع علة الاستحاضة لامرأة ، وتسألني عن ذلك وذلك غاية الغرور .

فكذلك المتفقه المسكين قد يسلط عليه حب الدنيا ، واتباع الشهوات والحسد والكبر والرياء ، وسائر المهلكات الباطنة ، وربما يخطفه الموت قبل التوبة والتلافي فيلقى الله وهو عليه غضبان ، فترك ذلك كله ، واشتغل بعلم السلم والإجارة ، والظهار ، واللعان والجراحات ، والديات والدعاوى ، والبينات ، وبكتاب الحيض ، وهو لا يحتاج إلى شيء من ذلك قط في عمره لنفسه ، وإذا احتاج غيره كان في المفتين كثرة ، فيشتغل بذلك ، ويحرص عليه لما فيه من الجاه والرياسة والمال ، وقد دهاه الشيطان وما يشعر إذ يظن المغرور بنفسه أنه مشغول بفرض دينه ، وليس يدري أن الاشتغال بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين معصية .

هذا لو كانت نيته صحيحة كما قال ، وقد كان قصد بالفقه وجه الله تعالى ، فإنه وإن قصد وجه الله فهو باشتغاله به معرض عن فرض عينه في جوارحه وقلبه فهذا غروره : من حيث العمل .

وأما ، غروره من حيث العلم فحيث اقتصر على علم الفتاوى ، وظن أنه علم الدين ، وترك كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وربما طعن في المحدثين ، وقال : إنهم نقلة أخبار ، وحملة أسفار لا يفقهون وترك أيضا علم تهذيب الأخلاق ، وترك الفقه عن الله تعالى بإدراك جلاله وعظمته ، وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع ، ويحمل على التقوى فتراه ، آمنا من الله مغترا به متكلا على أنه لا بد وأن يرحمه ، فإنه قوام دينه وأنه لو لم يشتغل بالفتاوى لتعطل الحلال والحرام ، فقد ترك العلوم التي هي أهم ، وهو غافل مغرور ، وسبب غروره ما سمع في الشرع من تعظيم الفقه، ولم يدر أن ذلك الفقه هو الفقه عن الله ، ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوة ; ليستشعر القلب الخوف ، ويلازم التقوى ; إذ قال تعالى: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون والذي يحصل به الإنذار غير هذا العلم فإن مقصود هذا العلم حفظ الأموال بشروط المعاملات وحفظ الأبدان بالأموال وبدفع ، القتل والجراحات ، والمال في طريق الله آلة ، والبدن مركب .

وإنما العلم المهم هو معرفة سلوك الطريق ، وقطع عقبات القلب التي هي الصفات المذمومة فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى ، وإذا مات ملوثا بتلك الصفات كان محجوبا عن الله .

فمثاله في الاقتصار على علم الفقه مثال من اقتصر من سلوك طريق الحج على علم خرز الراوية والخف ولا شك في أنه لو لم يكن لتعطل الحج ولكن المقتصر عليه ليس من الحج في شيء ولا بسبيله ، وقد ذكرنا شرح ذلك في كتاب العلم ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات ولم يهمه إلا تعلم طريق المجادلة والإلزام وإفحام الخصوم ، ودفع الحق لأجل الغلبة والمباهاة فهو طول الليل والنهار في التفتيش عن مناقضات أرباب المذاهب والتفقد لعيوب الأقران ، والتلقف لأنواع التسبيبات المؤذية وهؤلاء ، هم سباع الإنس طبعهم الإيذاء ، وهمهم السفه ولا يقصدون العلم إلا لضرورة ما يلزمهم لمباهاة الأقران فكل علم لا يحتاجون إليه في المباهاة كعلم القلب ، وعلم سلوك الطريق إلى الله تعالى بمحو الصفات المذمومة ، وتبديلها بالمحمودة فإنهم يستحقرونه ، ويسمونه التزويق ، وكلام الوعاظ وإنما التحقيق عندهم معرفة تفاصيل العربدة التي تجري بين المتصارعين في الجدل .

وهؤلاء قد جمعوا ما جمعه الذين من قبلهم في علم الفتاوى لكن ، زادوا إذ اشتغلوا بما ليس من فروض الكفايات أيضا ، بل جميع دقائق الجدل في الفقه بدعة لم يعرفها السلف ، وأما أدلة الأحكام فيشتمل عليها علم المذهب ، وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفهم معانيهما .

وأما حيل الجدل من الكسر ، والقلب ، وفساد الوضع والتركيب ، والتعدية فإنما أبدعت لإظهار الغلبة والإفحام ، وإقامة سوق الجدل بها فغرور هؤلاء أشد كثيرا ، وأقبح من غرور من قبلهم .

التالي السابق


(ولنذكر غرور الذين قنعوا من العلوم بما لا يهمهم، وتركوا المهم) منها، (وهم به) أي: بما حصلوه (مغترون إما لاستغنائهم عن أصل ذلك العلم، وإما لاقتصارهم عليه، فمنهم فرقة اقتصروا على علم الفتاوى في الحكومات والخصومات، وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لصالح المعاش، وخصصوا اسم الفقه بها، وسموه علم الفقه، وعلم المذهب، وربما ضيعوا مع ذلك الأعمال الظاهرة والباطنة، فلم يتفقدوا الجوارح، ولم يحرسوا اللسان عن الغيبة) والكذب، (ولا البطن عن الحرام) والشبهة، (ولا الرجل عن المشي إلى السلاطين) وأرباب الأموال، (وكذا سائر الجوارح، ولم يحرسوا قلوبهم) عن الكبر والرياء (والحسد، وسائر المهلكات) التي ذكرت، (فهؤلاء مغرورون من وجهين: أحدهما من حيث العمل، والآخر من حيث العلم; أما) من حيث (العمل فقد ذكرنا وجه الغرور فيه، وأن مثالهم مثال المريض إذا تعلم نسخة الدواء، واشتغل بتكراره وتعليمه) فلا ينفعه ذلك إلا إذا عمل بما فيها، (بل مثالهم مثال من به علة البواسير) جمع باسور، وهو ورم تدفعه الطبيعة إلى كل موضع في البدن يقبل الرطوبة من المقعدة والأنثيين والأشفار وغير ذلك; فإن كان في المقعدة لم يكن حدوثه دون انفتاح العروق، (والبرسام) وهو ورم حار للحجاب الذي بين الكبد والمعى، ثم يتصل بالدماغ، قال ابن دريد: هو معرب (وهو مشرف على الهلاك، ومحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله، فاشتغل بتعليم دواء الاستحاضة، وبتكرار ذلك ليلا ونهارا مع علمه بأنه رجل لا يحيض، ولا يستحاض، ولكن يقول ربما تقع علة الاستحاضة لامرأة، وتسألني عن ذلك) فأجيبها (وذلك غاية الغرور، فكذلك المتفقه المسكين قد يسلط عليه حب الدنيا، واتباع الشهوات والحسد والكبر والرياء، وسائر المهلكات الباطنة، وربما يختطفه الموت قبل التوبة والتلاقي) أي: التدارك، (فيلقى الله وهو عليه غضبان، فترك ذلك كله، واشتغل بعلم السلم، والإجازة، والظهار، واللعان، وسائر الجراحات، والديات، والدعاوى، والبينات، وبكتاب الحيض، وهو لا يحتاج إلى شيء من ذلك قط في عمره [ ص: 455 ] لنفسه، وإذا احتاج غيره كان في المفتين كثرة، فيشتغل بذلك، ويحرص عليه لما فيه من الجاه والمال والرياسة، وقد دعاه الشيطان) ، وسول له (وما يشعر) بذلك (إذ يظن المغرور بنفسه أنه مشغول بفرض دينه، وليس يدري أن الاشتغال بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين معصية، هذا لو كانت نيته صحيحة كما قال، وقد كان قصد بالفقه وجه الله تعالى، فإنه وإن قصد وجه الله فهو باشتغاله به معرض عن فرض عينه في جوارحه وقلبه: وهذا غرور من حيث العمل، فأما غروره من حيث العلم فحيث اقتصر على علم الفتاوى، وظن أنه علم الدين، وترك علم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وربما طعن على المحدثين، وقال: إنهم نقلة أخبار، وحملة أسفار لا يفقهون) أي: لا يدركون فقه الحديث (وترك أيضا علم تهذيب الأخلاق، وترك الفقه عن الله بإدراك جلالة عظمته، وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع، ويحمل على التقوى، فنراه آمنا من الله مغترا به متكلا على أنه لا بد وأن يرحمه، فإنه قوام دينه) ، وحامل شرع نبيه، (وإنه لو لم يشتغل بالفتاوى لتعطل الحلال والحرام، فقد ترك العلوم التي هي أهم، وهو غافل مغرور، وسبب غروره ما يسمع في الشرع من تعظيم الفقه، كالخبر السابق: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، ولم يدر أن ذلك الفقه هو الفقه عن الله، ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوة; ليستشعر القلب الخوف، ويلازم التقوى; إذ قال الله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) أي: فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة ( ليتفقهوا في الدين ) أي: يتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا مشاق تحصيلها، ( ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) أي، وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم، (والذي يحصل به الإنذار) ، والإرشاد (هو غير هذا العلم) الذي يشتغلون به، (فإن مقصود هذا العلم حفظ الأموال بشروط المعاملات وحفظ الأبدان بالأموال، أو بدفع القتل والجراحات، والمال في طريق الله آلة، والبدن مركب) ، والعبد مسافر، (وإنما العلم المهم هو معرفة سلوك الطريق، وقطع عقبات القلب التي هي الصفات المذمومة فهي الحجاب بين العبد وبين الله، وإذا مات ملوثا بتلك الصفات كان محجوبا عن الله) مبعدا عن حضرته، (فمثاله في الاقتصار على علم الفقه مثال من اقتصر من سلوك طريق الحج على علم خرز الراوية) أي: خياطتها، يقال: روى البعير يروي من باب رمى ، حمله، فهو راوية للمبالغة، ثم أطلقت الراوية على كل دابة يستقى الماء عليها، ثم أطلقت على هذه الآلة من الجلود تحمل المياه، فهو من مجاز المجاز، (و) علم خرز (الخف) ، وهو ما يلبس في الرجل، (ولا يشك في أنه لو لم يكن لتعطل الحج) ; لأن كلا منهما من لوازم المسافر في قطع البادية، (ولكن المقتصر عليه ليس من الحج في شيء، وقد ذكرنا شرح ذلك في كتاب العلم) ، فلا نعيده هنا (ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات) ، وهي المسائل المختلفة في المذاهب، (ولم يهمه إلا تعلم طريق المجادلة والإلزام) ، والتبكت والتسجيل، (وإفحام الخصوم، ودفع الحق لأجل الغلبة والمباهاة) بين الأقران (فهو طول الليل والنهار في التفتيش) ، والبحث (عن مناقضات أرباب المذاهب [ ص: 456 ] والتفقد لعيوب الأقران، والتلقف لأنواع التسبيبات المؤذية، فهؤلاء هم سباع الأنس) ، وذئاب الطمع (طبعهم الإيذاء، وهمهم السفه) ، وغمص الحق (ولا يقصدون العلم إلا لضرورة ما يلزمهم لمباهاة الأقران) ، ومجادلتهم (وكل علم لا يحتاجون إليه في المباهاة كعلم القلب، وعلم سلوك الطريق إلى الله بمحو الصفات المذمومة، وتبديلها بالمحمودة فإنهم يستحقرونه، ويسمونه التزويق، وكلام الوعاظ) ، ويسخرون بالذي يشتغل به ويجهلونه (وإنما التحقيق عندهم معرفة تفاصيل العربدة التي تجري بين المتصارعين في الجدل، وهؤلاء قد جمعوا ما جمعه الذين من قبلهم في علم الفتاوى، ولكن زادوا) عليهم، (إذ اشتغلوا بما ليس من فروض الكفايات أيضا، بل جميع دقائق الجدل في الفقه بدعة) أحدثت (لم يعرفها السلف، وأما أدلة الأحكام فيشتمل عليها علم المذهب، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهم معانيهما، وأما حيل الجدل من الكسر، والقلب، وفساد الوضع والتركيب، والتعدية فإنما أبدعت لإظهار الغلبة) مع الخصوم (والإفحام، وإقامة سوق الجدل بها فغرور هؤلاء أشد كثيرا، وأقبح من غرور من قبلهم) .




الخدمات العلمية