بيان . القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب
اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع ومن آذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالبا ، فإذا تيسرت له نعمة فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك ، وسوء حاله ، بل لا تزال تدرك في النفس بينهما تفرقة ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له ولكن إن قوي ذلك فيك حتى بعثك على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرك بأفعالك الاختيارية ، فأنت حسود عاص بحسدك ، وإن كففت ظاهرك بالكلية ، إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة ; فأنت أيضا حسود عاص لأن ، الحسد صفة القلب لا صفة الفعل ، قال الله تعالى : ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، وقال عز وجل ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ، وقال إن تمسسكم حسنة تسؤهم أما الفعل فهو غيبة ، وكذب ، وهو عمل صادر عن الحسد ، وليس هو عين الحسد ، بل محل الحسد القلب دون الجوارح نعم ، هذا الحسد ليس مظلمة يجب الاستحلال منها بل هو معصية بينك وبين الله تعالى ، وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح فأما إذا كففت ظاهرك ، وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها ، فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقابلة الميل من جهة الطبع ، فقد أديت الواجب عليك ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا ، فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي والمحسن ، ويكون فرحه أو غمه بما تيسر لهما من نعمة ، أو تنصب عليهما من بلية سواء ، فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتا إلى حظوظ الدنيا إلا أن يصير مستغرقا بحب الله تعالى مثل السكران الواله ، فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد ، بل ينظر إلى الكل بعين واحدة ، وهي عين الرحمة ، ويرى الكل عباد الله ، وأفعالهم أفعالا لله ، ويراهم مسخرين وذلك إن كان فهو كالبرق الخاطف لا يدوم ثم يرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه ويعود العدو إلى منازعته أعني الشيطان فإنه ينازع بالوسوسة فمهما قابل ذلك بكراهته ، وألزم قلبه هذه الحالة ، فقد أدى ما كلفه وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه لما روي عن الحسن أنه سئل عن الحسد ، فقال : غمه ، فإنه لا يضرك ما لم تبده وروي عنه موقوفا ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاثة لا يخلو منهن المؤمن ، وله منهن مخرج ، فمخرجه من الحسد أن لا يبغي والأولى أن يحمل هذا على ما ذكرناه من أن يكون فيه كراهة من جهة الدين ، والعقل في مقابلة ، حب الطبع لزوال نعمة العدو ، وتلك الكراهة تمنعه من البغي والإيذاء ، فإن جميع ما ورد من الأخبار في ذم الحسد يدل ظاهره على أن كل حاسد آثم .