الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان منها .

وقال أبو موسى الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى .

وقال صلى الله عليه وسلم : حب الدنيا رأس كل خطيئة .

وقال زيد بن أرقم كنا مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه فدعا بشراب فأتي بماء وعسل فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه وسكتوا ، وما سكت ، ثم عاد ، وبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته قال : ثم مسح عينيه فقالوا يا خليفة رسول الله ، ما أبكاك ? قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدفع عن نفسه شيئا ، ولم أر معه أحدا ، فقلت : يا رسول الله ، ما الذي تدفع عن نفسك ? قال : هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها : إليك عني ثم رجعت ، فقالت : إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك .

وقال صلى الله عليه وسلم : يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على مزبلة فقال : هلموا إلى الدنيا ، وأخذ خرقا قد بليت على تلك المزبلة ، وعظاما قد نخرت فقال : هذه الدنيا .

وهذه إشارة إلى أن زينة الدنيا ستخلق مثل تلك الخرق وأن ، الأجسام التي ترى بها ستصير عظاما بالية .

وقال صلى الله عليه وسلم : إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها ، فناظر كيف تعملون ? إن بني إسرائيل لما بسطت لهم الدنيا ، ومهدت تاهوا في الحلية ، والنساء ، والطيب ، والثياب .

التالي السابق


(وقال صلى الله عليه وسلم: الدنيا ملعونة) ; لأنها غرت النفوس بزهرتها، ونضارتها، فأمالتها من العبودية إلى الهوى حتى سلكت غير طريق الهدى (ملعون ما فيها) ، ويحتمل أن يكون المراد باللعن الترك، أي: متروكة متروك ما فيها، وقد يقال: إنها متروكة الأنبياء والأصفياء كما في الخبر الآخر: لهم الدنيا، ولنا الآخرة (إلا ما كان لله منها) .

قال العراقي: رواه الترمذي، وحسنه، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، وزاد: إلا ذكر الله وما والاه، وعالم، أو متعلم. ا ه .

قلت: سياق المصنف أخرجه أبو نعيم في الحلية، والضياء في المختارة من حديث جابر بلفظ: إلا ما كان منها لله - عز وجل -، وإسناده حسن .

وأما حديث أبي هريرة فرواه كذلك الطبراني في الأوسط من حديث ابن مسعود، وقال: لم يروه عن ثوبان، عن عبدة إلا أبو المطرف المغيرة بن مطرف، ولفظه:

[ ص: 81 ] وعالما أو متعلما، والمغيرة بن مطرف لا يعرف، وقد رواه البزار من هذا الطريق بلفظ: إلا أمرا بمعروف، أو نهيا عن منكر، وذكر الله.

ورواه الطبراني في الكبير من حديث أبي الدرداء بلفظ: إلا ما ابتغي به وجه الله.

قال المنذري: إسناده لا بأس به .

(وقال أبو موسى الأشعري) - رضي الله عنه - (من أحب دنياه أضر بآخرته) ; لأن حب الدنيا يشغله عن تفريغ قلبه لحب ربه، ولسانه لذكره فيضر آخرته ولا بد، (ومن أحب آخرته أضر بدنياه) ; لأن حب الآخرة يعطل عليه أسباب الكسب والمعاش فيضر بدنياه ولا بد .

والباء في القرينتين للتعدية (فآثروا) ، أي: اختاروا (ما يبقى على ما يفنى) .

قال العراقي: رواه أحمد، والبزار، والطبراني، وابن حبان، والحاكم، وصححه على شرط الشيخين .

قلت: وهو منقطع بين المطلب بن عبد الله، وبين أبي موسى. ا ه .

قلت: سبقه إلى ذلك الذهبي، وقد رواه كذلك القضاعي في مسند الشهاب، والبيهقي في الشعب، وقال المنذري: رجال أحمد ثقات، وعند بعضهم: ألا فآثروا بزيادة ألا التنبيهية (وقال صلى الله عليه وسلم: حب الدنيا رأس كل خطيئة) ; لأنه يوقع في الشهوات، ثم في المكروه، ثم في التحريم، ولطالما أوقع في الكفر، بل جميع الأمم المكذبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم حب الدنيا .

هكذا رواه الديلمي في الفردوس من حديث علي، ويعضد سنده، ولم يخرجه ولده في المسند، وقال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا، والبيهقي في الشعب من طريقه، عن الحسن مرسلا. ا ه .

قلت: وقال البيهقي بعد أن أورد هذا ما لفظه: ولا أصل له من حديث النبي إلا من مراسيل الحسن. ا ه .

ومراسيل الحسن عندهم شبه الريح .

كما نقله العراقي في شرح الألفية; ولذا أورده ابن الجوزي في الموضوعات، ورد عليه الحافظ ابن حجر بأن ابن المديني أثنى على مراسيل الحسن، وقال: إذا رواها عنه الثقات صحاح، وهذا، فالإسناد إليه حسن. ا ه .

وقال أبو زرعة: كل شيء يقول الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدت له أصلا ثابتا; ما خلا أربعة أحاديث، وليته ذكرها، وهذا القول عند البقاعي في الزهد، وأبي نعيم في ترجمة الثوري من الحلية من قول عيسى ابن مريم - عليه السلام -، وعند ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان له من قول مالك بن دينار، وعند ابن يونس في ترجمة سعد بن مسعود التجيبي في تاريخ مصر له من قول سعد هذا، وجزم ابن تيمية أنه من قول جندب البجلي - رضي الله عنه - (وقال زيد بن أرقم) بن زيد يونس الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه -، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين، مات سنة ست وستين، روى له الجماعة: (كنا مع أبي بكر - رضي الله عنه - فدعا بشراب فأتي بماء وعسل) ، أي: ماء ممزوج بعسل (فلما أدناه، أي: قربه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه، وما سكت، ثم عاد، وبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مساءلته قال: ثم مسح عينيه) كناية عن سكوته من البكاء، فإن من سكت مسح عينيه (فقالوا) ، أي: قال من حضر المجلس: (يا خليفة رسول الله، ما أبكاك؟ قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدفع عن نفسه شيئا، ولم أر معه أحدا، فقلت: يا رسول الله، ما الذي تدفع عن نفسك؟ قال: هذه الدنيا مثلت لي) ، أي: صورت لي (فقلت لها: إليك عني) ، أي: اذهبي عني، فذهبت (ثم رجعت، فقالت: إنك إن أفلت مني) ، أي: خلصت (لم يفلت مني من بعدك) .

قال العراقي: رواه البزار بسند ضعيف بنحوه، والحاكم، وصحح إسناده ابن أبي الدنيا، والبيهقي من طريقه بلفظه .

ا ه .

قلت: قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا الحسن بن علي، والفضل بن داود قالا: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا عبد الواحد بن زيد، حدثنا أسلم، عن مرة الطبيب، عن زيد بن أرقم أن أبا بكر - رضي الله عنه - استسقى، فأتي بإناء فيه ماء وعسل، فلما أدناه من فيه بكى، وأبكى من حوله، فسكت، وما سكتوا، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أن لا يقدروا على مساءلته، ثم مسح وجهه فأفاق، فقالوا: ما هاجك على هذا البكاء؟ قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل يدفع عنه شيئا: إليك عني، إليك عني، ولم أر معه أحدا، فقلت: يا رسول الله، أراك تدفع عنك شيئا، ولا أرى معك أحدا؟ قال: هذه الدنيا تمثلت لي بما فيها، فقلت: لا، إليك عني، فتنحت وقالت: أما والله لئن انفلت مني لا ينفلت مني من بعدك، فخشيت أن تكون قد لحقتني، [ ص: 82 ] فذاك الذي أبكاني.

وهكذا هو لفظ الحاكم، والبيهقي، والذي ساقه المصنف هو لفظ ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا، وتبعه صاحب القوت، والمصنف أخذه من سياق القوت .

(وقال صلى الله عليه وسلم: يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود هو يسعى لدار الغرور) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا من حديث أبي جعفر مرسلا .

قلت: هو عبد الله بن المسود المدائني الهاشمي، كذاب يضع الحديث، وقد تقدم ذكره في الكتاب الذي قبله .

(وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على مزبلة) ، وهي الموضع الذي يرمى فيه الكناسة والزبالة (فقال: هلموا إلى الدنيا، وأخذ) منها (خرقا قد بليت) من كثرة الاستعمال (على تلك المزبلة، وعظاما قد نخرت) ، أي: تفتت (فقال: هذه الدنيا) .

رواه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا، والبيهقي في شعب الإيمان من طريقه من رواية أبي ميمون اللخمي مرسلا .

قال العراقي: وفيه بقية بن الوليد، وقد ضعفه، وهو مدلس .

قلت: قال الذهبي في الضعفاء: أبو ميمون، عن رافع بن خديج مجهول .

(وهذا إشارة إلى أن زينتها ستخلق مثل الخرق، وإن الأجسام التي تتزين بها ستصير عظاما بالية .

وقال صلى الله عليه وسلم: إن الدنيا حلوة خضرة) ، أي: مشتهاة مونقة، تعجب من رآها (وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون؟ إن بني إسرائيل لما بسطت لهم الدنيا، ومهدت تاهوا في الحلية، والنساء، والطيب، والثياب) .

رواه ابن أبي الدنيا من حديث الحسن مرسلا هكذا بهذه الزيادة في آخره .

قال العراقي: رواه الترمذي، وابن ماجه من حديث أبي سعيد دون قوله: إن بني إسرائيل إلى آخره، والشطر الأول متفق عليه. ا ه .

قلت: ورواه كذلك مسلم، والنسائي، وآخرون من طريق سعيد بن يزيد أبي سلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، وممن رواه عن أبي نضرة خليد بن جعفر، وسليمان بن طرخان التيمي ، وعلي بن زيد بن جدعان، وحديثه عند ابن ماجه، والترمذي، وقال: حسن، والمستمر بن ريان، وهو عند العسكري من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: الدنيا خضرة حلوة من أخذها بحقها بورك له فيها، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة، وقد عزا الديلمي حديث الدنيا خضرة حلوة ، وإن رجالا يتخوضون إلى البخاري، عن خولة، والذي فيه من حديثها الجملة الثانية خاصة .

نعم، فيه حديث حكيم بن حزام: إن هذا المال خضرة حلوة ، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه... الحديث .

وفي الباب، عن ميمون، عند أبي يعلى، والطبراني، والرامهرمزي في الأمثال، وعن عبد الله بن عمر، وعند الطبراني فقط رفعاه: الدنيا حلوة خضرة.




الخدمات العلمية