بيان المواعظ في ذم الدنيا وصفتها .
قال بعضهم يا أيها الناس ، اعملوا على مهل وكونوا من الله على وجل ولا تغتروا بالأمل ، ونسيان الأجل ، ولا تركنوا إلى الدنيا ، فإنها غدارة خداعة قد تزخرفت لكم بغرورها ، وفتنتكم بأمانيها ، وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية العيون إليها ناظرة ، والقلوب عليها عاكفة والنفوس لها عاشقة ، فكم من عاشق لها قتلت ، ومطمئن إليها خذلت ، فانظروا إليها بعين الحقيقة ، فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها جديدها يبلى ، وملكها يفنى ، وعزيزها يذل ، وكثيرها يقل وحيها يموت ، وخيرها يفوت فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم ، وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال : فلان عليل أو مدنف ثقيل فهل : على الدواء من دليل ، وهل إلى الطبيب من سبيل فتدعى لك الأطباء ، ولا يرجى لك الشفاء ، ثم يقال : فلان أوصى ولماله أحصى ثم يقال : قد ثقل لسانه ، فما يكلم إخوانه ، ولا يعرف جيرانه ، وعرق عند ذلك جبينك ، وتتابع أنينك وثبت يقينك ، وطمحت جفونك ، وصدقت ظنونك ، وتلجلج لسانك ، وبكى إخوانك ، وقيل لك : هذا ابنك فلان ، وهذا أخوك فلان ومنعت من ، الكلام فلا تنطق وختم على لسانك فلا ينطلق ، ثم حل بك القضاء وانتزعت نفسك من الأعضاء ، ثم عرج بها إلى السماء ، فاجتمع عند ذلك إخوانك ، وأحضرت أكفانك ، فغسلوك ، وكفنوك ، فانقطع عوادك واستراح حسادك ، وانصرف أهلك إلى مالك ، وبقيت مرتهنا بأعمالك وقال بعضهم لبعض الملوك : إن أحق الناس بذم الدنيا ، وقلاها من بسط له فيها وأعطي حاجته منها ; لأنه يتوقع آفة تعدو على ماله ، فتجتاحه أو على جمعه ، فتفرقه ، أو تأتي سلطانه فتهدمه من القواعد أو تدب إلى جسمه ، فتسقمه أو تفجعه بشيء هو ضنين به بين أحبابه ، فالدنيا أحق بالذم ، هي الآخذة ما تعطي ، الراجعة فيما تهب ، بينا هي تضحك صاحبها إذ ; أضحكت منه غيره ، وبينا تبكي له ; إذ أبكت عليه ، وبينا هي تبسط كفها بالإعطاء ; إذ بسطتها بالاسترداد فتعقد ، التاج على رأس صاحبها اليوم ، وتعفره بالتراب غدا سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفا وترضى بكل من كل بدلا وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد ، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة ، وإنما أنزل آدم عليه السلام من الجنة إليها عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين ، فإن الزاد منها تركها والغنى ، منها فقرها ، لها في كل حين قتيل ، تذل من أعزها ، وتفقر من جمعها ، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه ، حتفه فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول الداء ، فاحذر هذه الدار الغدارة الختالة الخداعة التي قد تزينت بخدعها ، وفتنت بغرورها وحلت ، بآمالها وسوفت بخطابها ، فأصبحت كالعروس المجلية العيون ، إليها ناظرة ، والقلوب عليها والهة ، والنفوس لها عاشقة ، وهي لأزواجها كلهم قالية فلا الباقي بالماضي معتبر ، ولا الآخر بالأول مزدجر ، ولا العارف بالله عز وجل حين أخبره عنها مدكر ، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته ، فاغتر وطغى ، ونسي المعاد فشغل فيها لبه حتى زلت به قدمه ، فعظمت ندامته ، وكثرت حسرته ، واجتمعت عليه سكرات الموت وتألمه ، وحسرات الفوت بغصته وراغب ، فيها لم يدرك منها ما طلب ، ولم يروح نفسه من التعب ، فخرج بغير زاد ، وقدم على غير مهاد فاحذرها ، يا أمير المؤمنين ، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها ، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه السار في أهلها غار والنافع فيها غدا ضار ، وقد وصل الرخاء منها بالبلاء ، وجعل البقاء فيها إلى فناء فسرورها ، مشوب بالأحزان ، لا يرجع منها ما ولى وأدبر ، ولا يدري ما هو آت ، فينتظر ، أمانيها كاذبة ، وآمالها باطلة ، وصفوها كدر ، وعيشها نكد ، وابن آدم فيها على خطر إن عقل ونظر فهو من النعماء على خطر ، ومن البلاء على الحذر ، فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبرا ، ولم يضرب لها مثلا ، لكانت الدنيا قد أيقظت النائم ، ونبهت الغافل ، فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر ، وفيها واعظ ? فما لها عند الله جل ثناؤه قدر وما نظر إليها منذ خلقها ولقد عرضت على نبيك صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها ، وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها إذ كره أن يخالف على الله أمره ، أو يحب ما أبغضه خالقه ، أو يرفع ما وضع مليكه ، فزواها عن الصالحين اختبارا ، وبسطها لأعدائه اغترارا فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها ونسي ما صنع الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شد الحجر على بطنه .
ولقد جاءت الرواية عنه ، عن ربه عز وجل أنه قال لموسى عليه السلام : إذا رأيت الغنى مقبلا ، فقل : ذنب عجلت عقوبته ، وإذا رأيت الفقر مقبلا ، فقل مرحبا بشعار الصالحين وإن شئت اقتديت بصاحب الروح ، والكلمة عيسى ابن مريم عليه السلام فإنه كان يقول إدامي : الجوع ، وشعاري الخوف ، ولباسي الصوف ، وصلائي في الشتاء في مشارق الشمس ، وسراجي القمر ، ودابتي رجلاي ، وطعامي وفاكهتي ما أنبتت الأرض ، أبيت وليس لي شيء ، وأصبح وليس لي شيء ، وليس على الأرض أحد أغنى مني .


