الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
مثال آخر للدنيا ، وعبور الإنسان بها ، اعلم أن الأحوال ثلاثة : حالة لم تكن فيها شيئا وهي ما قبل وجودك إلى الأزل وحالة لا تكون فيها مشاهدا للدنيا ، وهي ما بعد موتك إلى الأبد وحالة متوسطة بين الأبد والأزل ، وهي أيام حياتك في الدنيا فانظر إلى مقدار طولها ، وانسبه إلى طرفي الأزل والأبد حتى تعلم أنه أقل من منزل قصير في سفر بعيد ; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ما لي : وللدنيا وإنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف فرفعت شجرة ، فقال تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها .

ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها ، ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضر وضيق ، أو في سعة ورفاهية ، بل لا يبني لبنة على لبنة .

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما وضع لبنة على لبنة ، ولا قصبة على قصبة .

ورأى بعض الصحابة يبني بيتا من جص فقال : أرى الأمر أعجل من هذا وأنكر ذلك وإلى هذا أشار عيسى عليه السلام حيث قال : الدنيا قنطرة فاعبروها ، ولا تعمروها وهو مثال واضح ، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة والمهد ، هو الميل الأول على رأس القنطرة ، واللحد هو الميل الآخر .

وبينهما مسافة محدودة فمن الناس من قطع نصف القنطرة ، ومنهم من قطع ثلثها ، ومنهم من قطع ثلثيها ، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة ، وهو غافل عنها ، وكيفما كان ، فلا بد له من العبور والبناء على القنطرة ، وتزيينها بأصناف الزينة ، وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان .

التالي السابق


(مثال آخر للدنيا، وعبور الإنسان بها، اعلم) هداك الله تعالى (أن الأحوال ثلاثة: حالة لم تكن فيها شيئا) مذكورا (وهي ما قبل وجودك في هذا العالم إلى الأزل) ، أي: استمداد الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي، (وحالة لا تكون فيها مشاهد الدنيا، وهي ما بعد موتك إلى الأبد) ، وهي استمراره كذلك في المآل (وحالة متوسطة بين الأبد والأزل، وهي أيام حياتك في الدنيا) ، ووجودك فيها، (فانظر إلى مقدار طولها، وانسبه إلى طرفي الأزل والأبد حتى تعلم أنه أقل من منزل قصير في سفر طويل; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ما لي وللدنيا) ، أي: ليس لي ألفة ومحبة معها، ولا لها معي حتى أرغب فيها، وأي ألفة لي، وصحبة لي مع الدنيا؟ قال الطيبي: واللام في الدنيا مقحمة للتأكيد إن كان الواو بمعنى مع، وإن كان للعطف فتقديره: ما لي وللدنيا معي (إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف) ، أي: شديد الحر (فرفعت له) ، أي: ظهرت له (شجرة، فقال تحت ظلها) من القيلولة، وهي نوم نصف النهار، والمراد هنا مطلق الاستراحة (ساعة) يدفع بذلك حر الوقت (وتركها) .

قال العراقي: رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم من حديث ابن مسعود بنحوه، ورواه أحمد، والحاكم، وصححه من حديث ابن عباس. انتهى .

قلت: سياق المصنف هو حديث ابن عباس، قال: دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على حصير أثر في جنبه، فقال: يا رسول الله، لو اتخذت فراشا أوثر من هذا؟ فقال: ما لي وللدنيا، وما للدنيا وما لي، والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها.

هكذا أخرجه أحمد، والطبراني، والحاكم، وابن حبان، والبيهقي، وأما لفظ حديث ابن مسعود: ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح، وتركها.

وهكذا رواه أيضا أحمد، وهناد، وابن سعد، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، قال ابن مسعود: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على حصير قد أثر على جنبه، فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: كسرى وقيصر على الخز والديباج، وأنت نائم على هذا الحصير، فذكره، قال الهيتمي: رجال أحمد رجال الصحيح، غير هلال بن جناب، وهو ثقة، وقال الترمذي: وهو حسن صحيح، وقال الحاكم: على شرط البخاري، وأقره الذهبي، قال الطيبي: وهذا التشبيه تمثيلي، ووجه الشبه سرعة الرحيل، وقلة الملك، ومن ثم خص الراكب، ومقصوده أن الدنيا زينة زينت للعيون والنفوس، فأخذت بهما استحسانا، ومحبة، ولو باشر القلب معرفة حقيقتها، ومصيرها لأبغضها، وما آثرها على الآجل الدائم .

وقال الحكيم في نوادر الأصول: جعل الله الدنيا ممرا، والآخرة مقرا، والروح جارية، والرزق بلغة، والمعاش حجة، والسعي جزاء ودعاء، من دار الآفات إلى دار السلام، ومن السجن إلى البستان، وذلك حال كل إنسان، لكن للنفس أخلاق دنيئة رديئة تعمي عن كونها دار ممر، وتلهي عن تذكرة كون الآخرة دار مقر، ولا يبصر ذلك إلا من اطمأنت نفسه، وماتت شهوته، واستنار قلبه بنور اليقين; ولذلك شهد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحال في نفسه، ولم يضفها لغيره، وإن كان سكان الدنيا جميعا كذلك لعماهم عما هناك .

(ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها، ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضر وضيق، أو في سعة ورفاهية، بل لا يبني لبنة على لبنة) بفتح، فكسر واحدة اللبن ككتف، وقد يخفف، وهو ما يعمل من الطين، ويبنى به (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وضع لبنة [ ص: 110 ] على لبنة، ولا قصبة على قصبة) .

قال العراقي: رواه ابن حبان، والطبراني في الأوسط من حديث عائشة بسند ضعيف. انتهى .

وفي خطبة علي - رضي الله عنه - يذكر فيها ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا، فقال: خرج من الدنيا خميصا، وورد الآخرة سليما; لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه .

(ورأى بعض أصحابه يبني بيتا من خص) بالضم، وهو القصب الفارسي يبنى به البيت، ويقال: للبيت المبني به خص، والجمع أخصاص (فقال: أرى الأمر أعجل من هذا) .

قال العراقي: رواه أبو داود، والترمذي من حديث عبد الله بن عمر، وقال: حسن صحيح، (وأنكر ذلك) عليه، (وإلى هذا أشار عيسى - عليه السلام - حيث قال: الدنيا قنطرة) يعبر عليها إلى الآخرة (فاعبروها، ولا تعمروها) كذا نقله صاحب القوت، وقد روى مالك من حديث ابن عمر مرفوعا .

رواه الديلمي في الفردوس بلا سند (وهو مثال واضح، فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، فالمهد هو الميل الأول) بكسر الميم اسم للمسافة (على رأس القنطرة، واللحد هو الميل الآخر) في آخر القنطرة (بينهما مسافة محدودة) معينة (فمن الناس من قطع نصف القنطرة، ومنهم من قطع ثلثها، ومنهم من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة، وهو غافل عنها، وكيفما كان، فلا بد له من العبور) ، والمرور (والبناء على القنطرة، وتزيينها بأصناف الزينة، وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان) ، وفي القوت: قال الحواريون لعيسى - عليه السلام -: إنما نريد أن نبني بيتا نجتمع فيه نتعبد وندارس، فاختر لنا موضعا نبني فيه، فقال: تعالوا، فمشوا معه، فوقف على قنطرة، فقال: ابنوا ههنا، فقالوا: نبني على قنطرة، وهي مدرجة للناس لا يدعون فيها؟ فقال: كذلك الدنيا مدرجة الموتى، وأنتم تبنون عليها، ولا يدعونكم فيها .




الخدمات العلمية