وغفلتهم عن الآخرة ، وخسرانهم العظيم بسببها : اعلم أن أهل الدنيا مثلهم في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج إلى قضاء الحاجة وحذرهم المقام وخوفهم مرور السفينة واستعجالها فتفرقوا في نواحي الجزيرة ، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خاليا ، فأخذ أوسع الأماكن ، وألينها ، وأوفقها لمراده . وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة وغياضها الملتفة ، ونغمات طيورها الطيبة ، وألحانها الموزونة الغريبة ، وصار يلحظ من بريتها أحجارها ، وجواهرها ، ومعادنها المختلفة الألوان ، والأشكال الحسنة المنظر ، العجيبة النقوش ، السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجدها وعجائب صورها ، ثم تنبه لخطر فوات السفينة ، فرجع إليها ، فلم يصادف إلا مكانا ضيقا حرجا ، فاستقر فيه . وبعضهم أكب على تلك الأصداف ، والأحجار وأعجبه ، حسنها ، ولم تسمح نفسه بإهمالها فاستصحب منها جملة فلم يجد في السفينة إلا مكانا ضيقا ، وزاده ما حمله من الحجارة ضيقا ، وصار ثقيلا عليه ووبالا ، فندم على أخذه ، ولم يقدر على رميه ولم يجد مكانا لوضعه فحمله في السفينة على عنقه ، وهو متأسف على أخذه وليس ينفعه التأسف . مثال آخر للدنيا وأهلها في اشتغالهم ، بنعيم الدنيا ،
وبعضهم تولج الغياض ، ونسي المركب ، وبعد في متفرجه ومتنزهه ، منه حتى لم يبلغه نداء الملاح ; لاشتغاله بأكل تلك الثمار واستشمام ، تلك الأنوار ، والتفرج بين تلك الأشجار ، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع وغير خال من السقطات .
والنكبات ، ولا منفك عن شوك ينشب بثيابه وغضن ، يجرح بدنه ، وشوكة تدخل في رجله ، وصوت هائل يفزع منه ، وعوسج يخرق ثيابه ، ويهتك عورته ، ويمنعه عن الانصراف لو أراد ، فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلا بما معه ، ولم يجد في المركب موضعا ، فبقي في الشط حتى مات جوعا . وبعضهم لم يبلغه النداء ، وسارت السفينة ؛ فمنهم من افترسته السباع ، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك ، ومنهم من مات في الأوحال ، ومنهم من نهشته الحيات فتفرقوا ، كالجيف المنتنة .
وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها ، والخوف من فوتها ، وقد ضيقت عليه مكانه ، فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار ، وكمدت تلك الألوان والأحجار ، فظهر نتن رائحتها فصارت ، مع كونها مضيقة عليه ، مؤذية له بنتنها ، ووحشتها ، فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هربا منها ، وقد أثر فيه ما أكل منها ، فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيما مدبرا ومن رجع قريبا ما فاته إلا سعة المحل فتأذى ، بضيق المكان مدة ، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح ، ومن رجع أولا وجد المكان الأوسع ، ووصل إلى الوطن سالما .