قال : قلت : حدثني رحمك الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أسمعه منك ، قال : إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن لي معه صحبة بأبي وأمي رسول الله ، ولكن رأيت رجالا قد صحبوه ، وبلغني من حديثه كما بلغك ، ولست أحب أن أفتح على نفسي هذا الباب أن أكون محدثا ، أو مفتيا ، أو قاضيا ، في نفسي شغل عن الناس يا فقلت : يا أخي ، اقرأ علي آية من القرآن أسمعها منك ، وادع لي بدعوات ، وأوصني بوصية أحفظها عنك ، فإني أحبك في الله حبا شديدا ، قال : فقام ، وأخذ بيدي على شاطئ الفرات ، ثم قال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم بكى ، ثم قال : قال ربي ، والحق قول ربي وأصدق الحديث حديثه ، وأصدق الكلام كلامه ، ثم قرأ : هرم بن حيان ، وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون حتى انتهى إلى قوله إنه هو العزيز الرحيم فشهق شهقة ظننت أنه قد غشي عليه ، ثم قال : يا ابن حيان ، مات أبوك حيان وتوشك ، أن تموت ، فإما إلى جنة ، وإما إلى نار ، ومات أبوك آدم ، وماتت أمك حواء ، ومات نوح ، ومات إبراهيم خليل الرحمن ، ومات موسى نجي الرحمن ، ومات داود خليفة الرحمن ، ومات محمد صلى الله عليه وسلم وهو رسول رب العالمين ، ومات خليفة المسلمين ، ومات أبو بكر أخي وصفيي ، ثم قال : يا عمراه ، يا عمراه . قال : فقلت : رحمك الله ، إن عمر بن الخطاب لم يمت قال : فقد نعاه إلي ربي ، ونعى إلي نفسي ، ثم قال : أنا وأنت في الموتى كأنه قد كان ، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا بدعوات خفيات ، ثم قال : هذه وصيتي إياك يا عمر هرم بن حيان ; كتاب الله ، ونهج الصالحين المؤمنين فقد ، نعيت إلي نفسي ونفسك ، عليك بذكر الموت لا يفارق قلبك طرفة عين ما بقيت ، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم وانصح للأمة جميعا قيد شبر ، فتفارق دينك ، وأنت لا تعلم ، فتدخل النار يوم القيامة ادع لي ، ولنفسك ، ثم قال : اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك ، وزارني من أجلك ، فعرفني وجهه في الجنة ، وأدخله علي في دارك دار السلام واحفظه ما دام في الدنيا حيثما كان ، وضم عليه ضيعته وأرضه من الدنيا باليسير وما أعطيته من الدنيا فيسره له تيسيرا ، واجعله لما أعطيته من نعمائك من الشاكرين واجزه ، عني خير الجزاء ، ثم قال : أستودعك الله يا وإياك أن تفارق الجماعة والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ، لا أراك بعد اليوم رحمك الله تطلبني ، فإني أكره الشهرة والوحدة أحب إلي إني ; كثير الهم ، شديد الغم مع هؤلاء الناس ما دمت حيا ، فلا تسأل عني ، ولا تطلبني ، واعلم أنك مني على بال ، وإن لم أرك ولم ترني ، فاذكرني وادع لي ; فإني سأذكرك ، وأدعو لك إن شاء الله ، انطلق أنت ههنا حتى أنطلق أنا ههنا . هرم بن حيان ،
فحرصت أن أمشي معه ساعة ، فأبى علي ، وفارقته ، فبكى ، وأبكاني ، وجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك ، ثم سألت عنه بعد ذلك ، فما وجدت أحدا يخبرني عنه بشيء رحمه الله ، وغفر له .
فهكذا كانت سيرة أبناء الآخرة المعرضين عن الدنيا .
وقد عرفت مما سبق في بيان الدنيا ، ومن سيرة الأنبياء والأولياء أن حد الدنيا كل ما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء إلا ما كان لله عز وجل من ذلك . وضد الدنيا الآخرة ، وهو كل ما أريد به الله تعالى مما يؤخذ بقدر الضرورة من الدنيا لأجل قوة طاعة الله وذلك ليس من الدنيا .
ويتبين هذا بمثال وهو أن الحاج إذا حلف أنه في طريق الحج .
لا يشتغل بغير الحج ، بل يتجرد له ، ثم اشتغل بحفظ الزاد وعلف الجمل وخرز الراوية وكل ما لا بد للحج منه لم يحنث في يمينه ، ولم يكن مشغولا بغير الحج فكذلك البدن مركب النفس تقطع به مسافة العمر فتعهد البدن بما تبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل ، هو من الآخرة لا من الدنيا . نعم ، إذا قصد تلذذ البدن ، وتنعمه بشيء من هذه الأسباب كان منحرفا عن الآخرة ، ويخشى على قلبه القسوة قال الطنافسي كنت على باب بني شيبة في المسجد الحرام سبعة أيام طاويا فسمعت في الليلة الثامنة مناديا وأنا بين اليقظة والنوم : ألا من أخذ من الدنيا أكثر مما يحتاج إليه أعمى الله عين قلبه .
فهذا بيان حقيقة الدنيا في حقك فاعلم ذلك ترشد إن شاء الله تعالى .