والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ، ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين ; علاقة القلب بالحب ، وعلاقة البدن بالشغل ، ولو عرف نفسه ، وعرف ربه ، وعرف حكمة الدنيا ، وسرها علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى وأعني ، بالدابة البدن ، فإنه لا يبقى إلا بمطعم ، ومشرب ، وملبس ، ومسكن كما لا يبقى الجمل في طريق الحج إلا بعلف وماء وجلال .
ومثال العبد في الدنيا في نسيانه نفسه ، ومقصده مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق ، ولا يزال يعلف الناقة ويتعهدها وينظفها ، ويكسوها ألوان الثياب ويحمل إليها أنواع الحشيش ، ويبرد لها الماء بالثلج حتى تفوته القافلة ، وهو غافل عن الحج ، وعن مرور القافلة ، وعن بقائه في البادية فريسة للسباع هو وناقته والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج ، وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشتغل بتعهد البدن إلا بالضرورة كما لا يدخل بيت الماء إلا لضرورة ، ولا فرق بين إدخال الطعام في البطن ، وبين إخراجه من البطن في أن كل واحد منهما ضرورة البدن ، ومن همته ما يدخل بطنه فقيمته ما يخرج منها وأكثر ما شغل عن الله تعالى هو البطن فإن القوت ضروري وأمر المسكن والملبس أهون ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا ، وحكمتها ، وحظوظهم منها ، ولكنهم جهلوا وغفلوا ، وتتابعت أشغال الدنيا عليهم ، واتصل بعضها ببعض وتداعت ، إلى غير نهاية محدودة فتاهوا في كثرة الأشغال ، ونسوا مقاصدها .
، ونحن نذكر تفاصيل أشغال الدنيا وكيفية ، حدوث الحاجة إليها ، وكيفية غلط الناس في مقاصدها حتى تتضح لك وكيف أنستهم عاقبة أمورهم ? فنقول : الأشغال الدنيوية هي الحرف ، والصناعات ، والأعمال التي ترى الخلق منكبين عليها وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث : القوت ، والمسكن ، والملبس ، فالقوت للغذاء والبقاء والملبس لدفع الحر ، والبرد ، والمسكن لدفع الحر ، والبرد ، ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال ، ولم يخلق الله القوت والمسكن والملبس مصلحا بحيث يستغنى عن صنعة الإنسان فيه . أشغال الدنيا كيف صرفت الخلق عن الله تعالى ؟
نعم ، خلق ذلك للبهائم ، فإن النبات يغذي الحيوان من غير طبخ ، والحر والبرد لا يؤثر في بدنه فيستغني عن البناء ويقنع بالصحراء ولباسها شعورها وجلودها ، فتستغني عن اللباس ، والإنسان ليس كذلك ، فحدثت الحاجة لذلك إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات ، وأوائل الأشغال الدنيوية ، وهي : الفلاحة ، والرعاية ، والاقتناص ، والحياكة ، والبناء أما البناء فللمسكن والحياكة وما يكتنفها من أمر الغزل ، والخياطة ، فللملبس والفلاحة للمطعم ، والرعاية للمواشي والخيل أيضا للمطعم ، والمركب ، والاقتناص نعني به تحصيل ما خلقه الله من صيد ، أو معدن ، أو حشيش ، أو حطب فالفلاح يحصل النباتات ، والراعي يحفظ الحيوانات ، ويستنتجها ، والمقتنص يحصل ما نبت ونتج بنفسه من غير صنع آدمي ، وكذلك يأخذ من معادن الأرض ما خلق فيها من غير صنعة آدمي ، ونعني بالاقتناص ذلك ويدخل تحته صناعات ، وأشغال عدة ثم هذه الصناعات تفتقر إلى أدوات وآلات كالحياكة ، والفلاحة ، والبناء ، والاقتناص والآلات إنما تؤخذ إما من النبات ، وهو الأخشاب أو من المعادن كالحديد ، والرصاص ، وغيرهما ، أو من جلود الحيوانات ، فحدثت الحاجة إلى ثلاثة أنواع أخر من الصناعات : النجارة ، والحدادة والخز وهؤلاء هم عمال الآلات ونعني بالنجار كل عامل في الخشب كيفما كان ، وبالحداد كل عامل في الحديد ، وجواهر المعادن ، حتى النحاس والإبري ، وغيرهما وغرضنا ذكر الأجناس فأما ، آحاد الحرف فكثيرة وأما الخراز فنعني به كل عامل في جلود الحيوانات وأجزائها فهذه أمهات الصناعات .