وأما وتمهيد العذر لأنفسهم في البطالة فاحتالوا للتعلل بالعجز ; إما بالحقيقة ، كجماعة يعمون أولادهم وأنفسهم بالحيلة ليعذروا بالعمى فيعطون وإما بالتعامي ، والتفالج ، والتجانن ، والتمارض وإظهار ذلك بأنواع من الحيل مع بيان أن تلك محنة أصابت من غير استحقاق ليكون ذلك سبب الرحمة وجماعة يلتمسون أقوالا وأفعالا ، يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها فيسخوا برفع اليد عن قليل من المال في حال التعجب ، ثم قد يندم بعد زوال التعجب ، ولا ينفع الندم ، وذلك قد يكون بالتمسخر والمحاكاة والشعبذة ، والأفعال المضحكة وقد يكون بالأشعار الغريبة والكلام ، المنثور المسجع ، مع حسن الصوت والشعر الموزون أشد تأثيرا في النفس ، لا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة ، وفضائل أهل البيت أو الذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة كصنعة الطبالين في الأسواق وصنعة ما يشبه العوض ، وليس بعوض ، كبيع التعويذات والحشيش الذي يخيل بائعه أنها أدوية فيخدع بذلك الصبيان ، والجهال وكأصحاب القرعة ، والفأل من المنجمين ويدخل في هذا الجنس الوعاظ والمكدون على رءوس المنابر إذا لم يكن وراءهم طائل علمي وكان غرضهم استمالة قلوب العوام وأخذ أموالهم بأنواع ، الكدية وأنواعها تزيد على ألف نوع وألفين وكل ذلك استنبط بدقيق الفكرة لأجل المعيشة ، فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت ، والكسوة ولكنهم ، نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ، ومقصودهم ومنقلبهم ، ومآبهم فتاهوا وضلوا وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمة الاشتغالات بالدنيا خيالات فاسدة فانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على عدة أوجه . المكدي ، فإنه إذا طلب ما سعى فيه غيره وقيل له : اتعب ، واعمل كما عمل غيرك فما لك والبطالة ، فلا يعطى شيئا فافتقروا ، إلى حيلة في استخراج الأموال ،
فطائفة غلبهم الجهل ، والغفلة ، فلم تنفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة أمورهم ، فقالوا : المقصود أن نعيش أياما في الدنيا ، فنجتهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب ، ثم نكسب حتى نأكل ، فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ، ليأكلوا ، وهذا مذهب الفلاحين والمحترفين ، ومن ليس له تنعم في الدنيا ، ولا قدم في الدين فإنه يتعب نهارا ليأكل ليلا ، ويأكل ليلا ليتعب نهارا ، وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت .