كما لا يزول العشق إلا بمفارقة المعشوق بالسفر عن مستقره ، حتى إذا سافر ، وفارق تكلفا ، وصبر عنه مدة تسلى عنه قلبه فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكلفا بأن يبذله بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له . ولا تزول صفة البخل إلا بالبذل تكلفا ،
ومن لطائف الحيل فيه أن يخدع نفسه بحسن الاسم ، والاشتهار بالسخاء ، فيبذل على قصد الرياء حتى تسمح نفسه بالبذل طمعا في حشمة الجود ، فيكون قد أزال عن نفسه خبث البخل ، واكتسب بها خبث الرياء ، ولكن ينعطف بعد ذلك على الرياء ، ويزيله بعلاجه ، ويكون طلب الاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال كما يسلى الصبي عند الفطام عن الثدي باللعب بالعصافير ، وغيرها لا ليخلى واللعب ولكن لينفك عن الثدي إليه ، ثم ينقل عنه إلى غيره فكذلك ، هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض كما تسلط الشهوة على الغضب ، وتكسر سورته بها ، ويسلط الغضب على الشهوة ، وتكسر رعونتها به ، إلا أن هذا مفيد في حق من كان البخل أغلب عليه من حب الجاه والرياء فيبدل ، الأقوى بالأضعف ، فإن كان الجاه محبوبا عنده كالمال ، فلا فائدة فيه ، فإنه يقلع من علة ، ويزيد في أخرى مثلها ، إلا أن علامة ذلك أن لا يثقل عليه البذل لأجل الرياء فبذلك ، يتبين أن الرياء أغلب عليه ، فإن كان البذل يشق عليه مع الرياء ، فينبغي أن يبذل ، فإن ذلك يدل على أن مرض البخل أغلب على قلبه .
ومثال دفع هذه الصفات بعضها ببعض ما يقال : إن الميت تستحيل جميع أجزائه دودا ثم يأكل بعض الديدان البعض حتى يقل عددها ، ثم يأكل بعضها بعضا حتى ترجع إلى اثنتين قويتين عظيمتين ، ثم لا تزالان تتقاتلان إلى أن تغلب إحداهما الأخرى ، فتأكلها ، وتسمن بها ، ثم لا تزال تبقى جائعة وحدها إلى أن تموت فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعضها على بعض حتى يقمعها ويجعل الأضعف قوتا للأقوى إلى أن لا يبقى إلا واحدة ، ثم تقع العناية بمحوها وإذابتها بالمجاهدة وهو منع القوت عنها .
ومنع القوت عن الصفات أن لا يعمل بمقتضاها ، فإنها تقتضي لا محالة أعمالا وإذا ، خولفت خمدت الصفات ، وماتت .
مثل البخل ، فإنه يقتضي إمساك المال ، فإذا منع مقتضاه ، وبذل المال مع الجهد مرة بعد أخرى ماتت صفة البخل ، وصار البذل طبعا ، وسقط التعب فيه فإن ، علاج البخل بعلم ، وعمل فالعلم يرجع إلى معرفة آفة البخل ، وفائدة الجود ، والعمل يرجع إلى الجود ، والبذل على سبيل التكلف ، ولكن قد يقوى البخل بحيث يعمي ويصم فيمنع تحقق المعرفة فيه ، وإذا لم تتحقق المعرفة لم تتحرك الرغبة ، فلم يتيسر العمل ، فتبقى العلة مزمنة كالمرض الذي يمنع معرفة الدواء ، وإمكان استعماله ، فإنه لا حيلة فيه إلا الصبر إلى الموت .
وكان ، من عادة بعض شيوخ الصوفية في معالجة علة البخل في المريدين أن يمنعهم من الاختصاص بزواياهم .
وكان إذا توهم في مريد فرحه بزاويته وما فيها نقله إلى زاوية غيرها ، ونقل زاوية غيره إليه ، وأخرجه عن جميع ما ملكه وإذا رآه يلتفت إلى ثوب جديد يلبسه ، أو سجادة يفرح بها ; يأمره بتسليمها إلى غيره ، ويلبسه ثوبا خلقا لا يميل إليه قلبه .
فبهذا يتجافى القلب عن متاع الدنيا .
فمن لم يسلك هذا السبيل أنس بالدنيا وأحبها فإن كان له ألف متاع كان له ألف محبوب ; ولذلك إذا سرق كل واحد منه ألمت به مصيبة بقدر حبه له ، فإذا مات نزل به ألف مصيبة دفعة واحدة ; لأنه كان يحب الكل ، وقد سلب عنه ، بل هو في حياته على خطر المصيبة بالفقد ، والهلاك .
حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجواهر لم ير له نظير ، ففرح الملك بذلك فرحا شديدا ، فقال لبعض الحكماء عنده : كيف ترى هذا قال : أراه مصيبة ، أو فقرا ، قال : كيف ? قال : إن كسر كان مصيبة لا جبر لها ، وإن سرق صرت فقيرا إليه ولم تجد مثله ، وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة ، والفقر ، ثم اتفق يوما أن كسر أو سرق ، وعظمت مصيبة الملك عليه فقال : صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا . وهذا شأن جميع أسباب الدنيا فإن وعدوة أولياء الله ; إذ تغمهم بالصبر عنها وعدوة الله ; إذ تقطع طريقه على عباده وعدوة نفسها ، فإنها تأكل نفسها ، فإن المال لا يحفظ إلا بالخزائن والحراس . الدنيا عدوة لأعداء الله ; تسوقهم إلى النار
والخزائن والحراس لا يمكن تحصيلها إلا بالمال ، وهو بذل الدراهم والدنانير ، فالمال يأكل نفسه ويضاد ذاته حتى يفنى ، ومن عرف آفة المال لم يأنس به ولم يفرح ولم يأخذ منه إلا بقدر حاجته ومن قنع بقدر الحاجة ، فلا يبخل ; لأن ما أمسكه لحاجته ، فليس ببخل وما لا ، يحتاج إليه ، فلا يتعب نفسه بحفظه فيبذله ، بل هو كالماء على شط الدجلة ; إذ لا يبخل به أحد لقناعة الناس منه بمقدار الحاجة .