وبلغنا أن بعض خيار التابعين سئل عن رجلين أحدهما .
طلب الدنيا حلالا فأصابها ، فوصل بها رحمه ، وقدم لنفسه .
وأما الآخر .
فإنه جانبها فلم يطلبها ، ولم يتناولها ، فأيهما أفضل ? قال :
بعيد والله ما بينهما ، الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها .
ويحك ! فهذا الفضل لك بترك الدنيا على من طلبها ، ولك في العاجل إن تركت الاشتغال بالمال وإن ذلك أروح لبدنك وأقل لتعبك ، وأنعم لعيشك ، وأرضى لبالك وأقل لهمومك .
فما عذرك في جمع المال وأنت بترك المال أفضل ممن طلب المال لأعمال البر ؟! نعم ، فاجتمع لك راحة العاجل مع السلامة والفضل في الآجل وبعد . وشغلك بذكر الله أفضل من بذل المال في سبيل الله ،
بنبيك إذ هداك الله به وترضى ما اختاره لنفسه من مجانبة الدنيا . فلو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى
ويحك ! تدبر ما سمعت وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا فسر مع لواء المصطفى سابقا إلى جنة المأوى .
فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء ، وإذا استقرض لم يجد قرضا ، وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه ولم يقدر على أن يكتسب ما يغنيه ، يمسي مع ذلك ويصبح ، راضيا عن ربه ، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
ألا يا أخي متى جمعت هذا المال بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر والفضل تجمعه ، لا ، ولكنك خوفا من الفقر تجمعه وللنعيم ، والزينة والتكاثر والفخر والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه ، ثم تزعم أنك لأعمال البر تجمع المال ، ويحك ! راقب الله واستحي ، من دعواك أيها المغرور .
ويحك ! إن كنت مفتونا بحب المال والدنيا فكن مقرا أن الفضل والخير في الرضا بالبلغة ومجانبة الفضول نعم ، وكن عند جمع المال مزريا على نفسك ، معترفا بإساءتك ، وجلا من الحساب ؛ فذلك أنجى لك ، وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج لجمع المال .
إخواني ! اعلموا أن دهر الصحابة كان الحلال فيه موجودا ، وكانوا مع ذلك من أورع الناس وأزهدهم في المباح لهم ونحن في دهر الحلال فيه مفقود ، وكيف لنا من الحلال مبلغ القوت وستر العورة .
فأما جمع المال في دهرنا فأعاذنا الله وإياكم منه .
. وبعد فأين لنا بمثل ومثل زهدهم واحتياطهم ، وأين لنا مثل ضمائرهم وحسن نياتهم ، دهينا ورب السماء بأدواء النفوس وأهوائها ، وعن قريب يكون الورود ، فيا سعادة المخفين يوم النشور ، وحزن طويل لأهل التكاثر والتخاليط وقد نصحت لكم إن قبلتم والقابلون لهذا قليل . تقوى الصحابة وورعهم ،
وفقنا الله وإياكم لكل خير برحمته آمين .
، هذا آخر كلامه وفيه كفاية في إظهار فضل الفقر على الغنى ، ولا مزيد عليه .
ويشهد لذلك جميع الأخبار التي أوردناها في كتاب ذم الدنيا وفي كتاب الفقر والزهد .
ويشهد له أيضا ما روي عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا ، قال : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، قال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا قال : يا ثعلبة أما لك في أسوة ؟! أما ترضى أن تكون مثل نبي الله تعالى ؟! أما والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت ، قال : والذي بعثك بالحق نبيا لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه ولأفعلن ولأفعلن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالا ، فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في الجماعة ويدع ما سواهما ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الجماعة إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة وطفق يلقى الركبان يوم الجمعة فيسألهم عن الأخبار في المدينة ، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، فقال : ما فعل ثعلبة بن حاطب ؟ فقيل : يا رسول الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة وأخبر بأمره كله فقال : يا ويح ثعلبة ! يا ويح ثعلبة ! يا ويح ثعلبة ! قال وأنزل الله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم .
وأنزل الله تعالى فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من جهينة ورجلا من بني سليم على الصدقة وكتب لهما كتابا بأخذ الصدقة وأمرهما أن يخرجا فيأخذا من المسلمين ، وقال : مرا بثعلبة بن حاطب ، وبفلان : رجل من بني سليم ، وخذا صدقاتهما ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذه إلا جزية ؟! ما هذه إلا جزية ؟! ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي ، فانطلقا نحو فسمع بهما فقام إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهما بها ، فلما رأوها قالوا : لا يجب عليك ذلك وما نريد نأخذ هذا منك قال : بلى ، خذوها ، فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا السليمي بثعلبة ، فسألاه الصدقة ، فقال : أروني كتابكما ، فنظر فيه ، فقال : هذه أخت الجزية ، انطلقا حتى أرى رأيي ، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال : يا ويح ثعلبة ! قبل أن يكلماه ، ودعا للسليمي فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ، وبالذي صنع فأنزل الله تعالى في السليمي ثعلبة ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ما أنزل الله فيه ، فخرج حتى أتى ثعلبة فقال : لا أم لك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال : إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ، فجعل يحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عملك أمرتك فلم تطعني ، فلما أبى أن يقبل منه شيئا رجع إلى منزله ، فلما قبض رسول صلى الله عليه وسلم جاء بها إلى رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وجاء بها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وتوفي ثعلبة بعد في خلافة عمر بن الخطاب . عثمان
فهذا وقد عرفته من هذا الحديث . طغيان المال وشؤمه ،