بيان ما به التكبر .
اعلم أنه لا يتكبر إلا متى استعظم نفسه ، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال .
وجماع ، ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي فالديني هو العلم والعمل والدنيوي هو النسب والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار .
، فهذه سبعة أسباب .
الأول : العلم ، وما أسرع الكبر إلى العلماء ! ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : آفة العلم الخيلاء .
فلا يلبث العالم أن يتعزز بعزة العلم يستشعر في نفسه جمال العلم وكماله ، ويستعظم نفسه ، ويستحقر الناس ، وينظر إليهم نظره إلى البهائم ، ويستجهلهم ويتوقع أن يبدءوه بالسلام فإن بدأه واحد منهم بالسلام ، أو رد عليه ببشر ، أو قام له ، أو أجاب له دعوة ، رأى ذلك صنيعة عنده ، ويدا عليه ، يلزمه شكرها ، واعتقد أنه أكرمهم ، وفعل بهم ما لا يستحقون من مثله وأنه ، ينبغي أن يرقوا له ويخدموه شكرا له على صنيعه بل الغالب أنهم يبرونه فلا يبرهم ويزورونه فلا يزورهم ، ويعودونه فلا يعودهم ، ويستخدم من خالطه منهم ويستسخره في حوائجه فإن قصر فيه استنكره ، كأنهم عبيده أو أجراؤه ، وكأن تعليمه العلم صنيعة منه ، إليهم ومعروف لديهم ، واستحقاق حق عليهم ، هذا فيما يتعلق بالدنيا .
أما في أمر الآخرة ، فتكبره عليهم بأن يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم ، فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه ، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم ، وهذا بأن يسمى جاهلا أولى من أن يسمى عالما ، بل العلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به نفسه وربه وخطر الخاتمة ، وحجة الله على العلماء ، وعظم خطر العلم فيه ، كما سيأتي في طريق ويقتضي أن يرى كل الناس خيرا منه ؛ لعظم حجة الله عليه بالعلم ، وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم . معالجة الكبر بالعلم وهذا العلم يزيد ، خوفا وتواضعا وتخشعا
ولهذا قال من ازداد علما ازداد وجعا ، وهو كما قال . أبو الدرداء
فإن قلت : فما بال بعض الناس يزداد بالعلم كبرا وأمنا .
؟ فاعلم أن لذلك سببين :
أحدهما : أن يكون اشتغاله بما يسمى علما وليس علما حقيقيا ، وإنما العلم الحقيقي ما يعرف به العبد ربه ونفسه ، وخطر أمره في لقاء الله ، والحجاب منه ، وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر والأمن .
قال الله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء فأما ما وراء ذلك كعلم الطب والحساب واللغة والشعر والنحو وفصل الخصومات وطرق المجادلات ، فإذا تجرد الإنسان لها حتى امتلأ منها امتلأ بها كبرا ونفاقا ، وهذه بأن تسمى صناعات أولى من أن تسمى علوما ، بل العلم هو معرفة العبودية والربوبية ، وطريق العبادة وهذه تورث التواضع غالبا .
السبب الثاني : أن يخوض العبد في العلم وهو خبيث الدخلة ، رديء النفس سيئ ، الأخلاق ؛ فإنه لم يشتغل أولا بتهذيب نفسه وتزكية قلبه بأنواع المجاهدات ، ولم يرض نفسه في عبادة ربه ، فبقي خبيث الجوهر ، فإذا خاض في العلم أي علم كان صادف العلم من قلبه منزلا خبيثا ، فلم يطب ثمره ، ولم يظهر في الخير أثره .
وقد . ضرب وهب لهذا مثلا ، فقال : العلم كالغيث ، ينزل من السماء حلوا صافيا ، فتشربه الأشجار بعروقها ، فتحوله على قدر طعومها ، فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة فكذلك ، العلم تحفظه الرجال فتحوله على قدر هممها وأهوائها ، فيزيد المتكبر كبرا والمتواضع تواضعا وهذا لأن من كانت همته الكبر وهو جاهل فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به فازداد كبرا وإذا كان الرجل خائفا مع جهله فازداد ، علما علم أن الحجة قد تأكدت عليه ، فيزداد خوفا وإشفاقا وذلا وتواضعا فالعلم من أعظم ما يتكبر به ولذلك قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقال عز وجل ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ووصف أولياءه فقال : أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وكذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه العباس رضي الله عنه « يكون قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يقولون : قد قرأنا القرآن ، فمن أقرأ منا ومن أعلم منا ؟! ثم التفت إلى أصحابه وقال : أولئك منكم أيها الأمة ، أولئك هم وقود النار .
ولذلك قال رضي الله عنه: «لا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يفي علمكم بجهلكم» ولذلك استأذن تميم الداري عمر رضي الله عنه في القصص، فأبى أن يأذن له، وقال: إنه الذبح واستأذن رجل وكان إمام قوم أنه إذا سلم من صلاته ذكرهم قال: إني أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا، وصلى عمر بقوم، فلما سلم من صلاته قال: لتلتمسن إماما غيري أو لتصلن وحدانا إني رأيت في نفسي أنه ليس في القوم أفضل مني، فإذا كان مثل حذيفة لا يسلم فكيف يسلم الضعفاء من متأخري هذه الأمة؟! فما أعز على بسيط الأرض عالما يستحق أن يقال: له عالم، ثم إنه لا يحركه عز العلم وخيلاؤه، فإن وجد ذلك فهو صديق زمانه فلا ينبغي أن يفارق، بل يكون النظر إليه عبادة، فضلا عن الاستفادة من أنفاسه وأحواله، ولو عرفنا ذلك ولو في أقصى الصين لسعينا إليه رجاء أن تشملنا بركته، وتسري إلينا سيرته وسجيته، وهيهات! فأنى يسمح آخر الزمان بمثلهم، فهم أرباب الإقبال، وأصحاب الدول، قد انقرضوا في القرن الأول ومن يليهم بل يعز في زماننا عالم يختلج في نفسه الأسف والحزن على فوات هذه الخصلة، فذلك أيضا إما معدوم وإما عزيز، ولولا بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: حذيفة لكان جديرا بنا أن نقتحم والعياذ بالله تعالى ورطة اليأس والقنوط ، مع ما نحن عليه من سوء أعمالنا ، ومن لنا أيضا بالتمسك بعشر ما كانوا عليه ؟! وليتنا تمسكنا بعشر عشره . « سيأتي على الناس زمان من تمسك بعشر ما أنتم عليه نجا »
فنسأل الله تعالى أن يعاملنا بما هو أهله ويستر ، علينا قبائح أعمالنا ، كما يقتضيه كرمه وفضله .