لكن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات ،
الدرجة : الأولى : أن يكون الكبر مستقرا في قلبه ، يرى نفسه خيرا من غيره ، إلا أنه يجتهد ويتواضع ، ويفعل فعل من يرى غيره خيرا من نفسه ، وهذا قد رسخ في قلبه شجرة الكبر ، ولكنه قطع أغصانها بالكلية .
الثانية : أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس ، والتقدم على الأقران ، وإظهار الإنكار على من يقصر في حقه وأدنى ذلك في العالم أن يصعر خده للناس ، كأنه معرض عنهم ، وفي العابد أن يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه منزه عن الناس مستقذر ، لهم ، أو غضبان عليهم ، وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب ، ولا في الوجه حتى يعبس ، ولا في الخد حتى يصعر ، ولا في الرقبة حتى تطأطأ ، ولا في الذيل حتى يضم ، إنما الورع في القلوب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ، فقد « التقوى هاهنا وأشار إلى صدره » وكان أوسعهم خلقا، وأكثرهم بشرا وتبسما وانبساطا؛ ولذلك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق وأتقاهم الحارث بن جزء الزبيدي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبني من القراء كل طليق مضحاك فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه فلا أكثر الله في المسلمين مثله .
ولو كان الله سبحانه وتعالى يرضى ذلك لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وهؤلاء الذين يظهر أثر الكبر على شمائلهم فأحوالهم أخف حالا ممن هو في .
الرتبة الثالثة وهو ، حتى يدعوه إلى الدعوى ، والمفاخرة ، والمباهاة ، وتزكية النفس وحكايات ، الأحوال والمقامات ، والتشمر لغلبة الغير في العلم والعمل . الذي يظهر الكبر على لسانه
أما العابد فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد :
من هو ، وما عمله ، ومن أين زهده ، فيطول اللسان فيهم بالتنقص ثم يثني على نفسه ويقول : إني لم أفطر منذ كذا وكذا ولا أنام الليل وأختم القرآن في كل يوم ، وفلان ينام سحرا ، ولا يكثر القراءة ، وما يجري مجراه . وقد يزكي نفسه ضمنا فيقول : قصدني فلان بسوء فهلك ولده ، وأخذ ماله ، أو مرض ، أو ما يجره مجراه ، يدعي الكرامة لنفسه .
وأما مباهاته : فهو أنه لو وقع مع قوم يصلون بالليل قام وصلى أكثر مما كان يصلي وإن كانوا يصبرون على الجوع فيكلف نفسه الصبر ليغلبهم ويظهر له قوته وعجزهم وكذلك يشتد في العبادة خوفا من أن يقال : غيره أعبد منه ، أو أقوى منه في دين الله .
وأما العالم فإنه يتفاخر ويقول : أنا متفنن في العلوم ومطلع على الحقائق ، ورأيت من الشيوخ فلانا وفلانا ، ومن أنت ? وما فضلك ? ومن لقيت وما الذي سمعت من الحديث ? كل ذلك ليصغره ويعظم نفسه .
وأما مباهاته : فهو أنه يجتهد في المناظرة أن يغلب ولا يغلب ، ويسهر طول الليل والنهار في تحصيل علوم يتجمل بها في المحافل كالمناظرة والجدل وتحسين العبارة وتسجيع ، الألفاظ ، وحفظ العلوم الغريبة ؛ ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم ويحفظ الأحاديث ألفاظها وأسانيدها ؛ حتى يرد على من أخطأ فيها ، فيظهر فضله ونقصان أقرانه ، ويفرح مهما أخطأ واحد منهم ليرد ؛ عليه ويسوء ، إذا أصاب وأحسن ؛ خيفة من أن يرى أنه أعظم منه .
فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التعزز بالعلم والعمل ، وأين من يخلو عن جميع ذلك أو عن بعضه ؟! فليت شعري من الذي عرف هذه الأخلاق من نفسه ، وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : . . « لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر »
كيف يستعظم نفسه ويتكبر على غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه من أهل النار ؟! وإنما العظيم من خلا عن هذا ، ومن خلا عنه لم يكن فيه تعظيم وتكبر ، والعالم هو الذي فهم إن الله تعالى قال له : إن لك عندنا قدرا ما لم تر لنفسك قدرا ، فإن رأيت لها قدرا فلا قدر لك عندنا .
ومن لم يعلم هذا من الدين فاسم العالم عليه كذب ومن علمه لزمه أن لا يتكبر ، ولا يرى لنفسه قدرا .
فهذا هو التكبر بالعلم والعمل .