بيان . غاية الرياضة في خلق التواضع
اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق ، له طرفان وواسطة ، فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبرا وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسسا ومذلة والوسط يسمى تواضعا .
والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسس ، فإن كلا طرفي الأمور ذميم ، وأحب الأمور إلى الله تعالى أوساطها .
فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر ، ومن يتأخر عنهم فهو متواضع أي : وضع شيئا من قدره الذي يستحقه .
والعالم إذا دخل عليه إسكاف فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ، ثم تقدم وسوى له نعله وعدا ، إلى باب الدار خلفه فقد تخاسس وتذلل وهذا ، أيضا غير محمود ، بل المحمود عند الله العدل ، وهو أن يعطي كل ذي حق حقه ، فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأقرانه ومن يقرب من درجته . فأما تواضعه للسوقي : فبالقيام ، والبشر في الكلام والرفق في السؤال ، وإجابة دعوته والسعي في حاجته وأمثال ذلك ، وأن لا يرى نفسه خيرا منه ، بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره ، فلا يحتقره ، ولا يستصغره ، وهو لا يعرف خاتمة أمره .
فإذن : سبيله في اكتساب التواضع أن يتواضع للأقران ولمن دونهم ؛ حتى يخف عليه التواضع المحمود في محاسن العادات ؛ ليزول به الكبر عنه ، فإن خف عليه ذلك فقد حصل له خلق التواضع ، وإن كان يثقل عليه وهو يفعل ذلك فهو متكلف لا متواضع ، بل الخلق ما يصدر عنه الفعل بسهولة من غير ثقل ومن غير روية فإن خف ذلك ، وصار بحيث يثقل عليه رعاية قدره حتى أحب التملق والتخاسس فقد خرج إلى طرف النقصان ، فليرفع نفسه ؛ إذ ليس للمؤمن أن تذل نفسه إلى أن يعود إلى الوسط الذي هو الصراط المستقيم وذلك غامض في هذا الخلق وفي سائر الأخلاق .
والميل عن الوسط إلى طرف النقصان وهو التملق أهون من الميل إلى طرف الزيادة بالتكبر ، كما أن الميل إلى طرف التبذير في المال أحمد عند الناس من الميل إلى طرف البخل فنهاية التبذير ونهاية البخل مذمومان وأحدهما أفحش وكذلك نهاية التكبر ونهاية التنقص والتذلل مذمومان وأحدهما أقبح من الآخر .
والمحمود المطلق هو العدل ووضع الأمور مواضعها كما يجب وعلى ما يجب كما يعرف ذلك بالشرع والعادة ولنقتصر على هذا القدر من : بيان أخلاق الكبر والتواضع .