بيان علاج العجب على الجملة .
اعلم أن فلنفرض العجب بفعل داخل تحت اختيار العبد ، كالعبادة والصدقة والغزو وسياسة الخلق وإصلاحهم ، فإن العجب بهذا أغلب من العجب بالجمال والقوة والنسب وما ، لا يدخل تحت اختياره ، ولا يراه من نفسه . علاج كل علة هو مقابلة سببها بضده ، وعلة العجب الجهل المحض ، فعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل فقط .
فنقول : الورع والتقوى والعبادة والعمل الذي به يعجب إنما يعجب به من حيث إنه فيه ، فهو محله ومجراه ، أو من حيث إنه منه وبسببه وبقدرته وقوته . فإن كان يعجب به من حيث إنه فيه وهو محله ومجراه يجري ، فيه وعليه من جهة غيره ، فهذا جهل لأن المحل مسخر ومجرى لا مدخل له في الإيجاد والتحصيل فكيف يعجب بما ليس إليه وإن كان يعجب به من حيث إنه هو منه وإليه وباختياره حصل ، وبقدرته تم ، فينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته وأعضائه وسائر الأسباب التي بها يتم عمله أنها من أين كانت له ? فإن كان جميع ذلك نعمة من الله عليه من غير حق سبق له ، ومن غير وسيلة يدلي بها ، فينبغي أن يكون إعجابه بجود الله ، وكرمه ، وفضله ؛ إذ أفاض عليه ما لا يستحق وآثره به على غيره من غير سابقة ووسيلة فمهما برز الملك لغلمانه ، ونظر إليهم ، وخلع من جملتهم على واحد منهم لا لصفة فيه ، ولا لوسيلة ، ولا لجماله ، ولا لخدمة ، فينبغي أن يتعجب المنعم عليه من فضل الملك وحكمه وإيثاره من غير استحقاق وإعجابه بنفسه من أين ? وما سببه ولا ينبغي ؟ أن يعجب بنفسه .
نعم ، يجوز أن يعجب العبد فيقول : الملك حكم عدل ، لا يظلم ولا يقدم ولا يؤخر إلا لسبب فلولا أنه تفطن في صفة من الصفات المحمودة الباطنة لما اقتضى الإيثار بالخلعة ، ولما آثرني بها فيقال وتلك الصفة أيضا هي من خلعة الملك وعطيته التي خصصك بها من غيرك من غير وسيلة ، أو : هي عطية غيره ? فإن كانت من عطية الملك أيضا لم يكن لك أن تعجب بها ، بل كانوا كما لو أعطاك فرسا فلم تعجب به .
فأعطاك غلاما فصرت تعجب به ، وتقول : إنما أعطاني غلاما ؛ لأني صاحب فرس فأما غيري فلا فرس له ، فيقال : وهو الذي أعطاك الفرس ، فلا فرق بين أن يعطيك الفرس والغلام معا ، أو يعطيك أحدهما بعد الآخر ، فإذا كان الكل منه فينبغي أن يعجبك جوده وفضله لا نفسك .
وأما إن كانت تلك الصفة من غيره فلا يبعد أن تعجب بتلك الصفة ، وهذا يتصور في حق الملوك ولا يتصور في حق الجبار القاهر ملك الملوك المنفرد باختراع الجميع المنفرد بإيجاد الموصوف والصفة ؛ فإنك إن أعجبت بعادتك وقلت : وفقني للعبادة لحبي له ، فيقال : ومن خلق الحب في قلبك ? فتقول : هو ، فيقال : فالحب والعبادة كلاهما نعمتان من عنده ، ابتدأك بهما من غير استحقاق من جهتك ؛ إذ لا وسيلة لك ولا علاقة ، فيكون الإعجاب بجوده إذ أنعم بوجودك ووجود صفاتك وبوجود أعمالك وأسباب أعمالك . فإذا : لا معنى لعجب العابد بعبادته ، وعجب العالم بعلمه ، وعجب الجميل بجماله ، وعجب الغني بغناه ؛ لأن كل ذلك من فضل الله وإنما هو محل لفيضان فضل الله تعالى وجوده ، والمحل أيضا من فضله وجوده .
. فإن قلت : لا يمكنني أن أجهل أعمالي وإني أنا عملتها فإني أنتظر عليها ثوابا ولولا أنها عملي لما انتظرت ثوابا ، فإن كانت الأعمال مخلوقة لله على سبيل الاختراع فمن أين لي الثواب ؟! وإن كانت الأعمال مني وبقدرته فكيف لا أعجب بها فاعلم أن جوابك من وجهين :
أحدهما هو : صريح الحق .
والآخر فيه مسامحة .
، فما عملت إذ عملت وما صليت إذ صليت أما صريح الحق فهو أنك وقدرتك وإرادتك وحركتك وجميع ذلك من خلق الله واختراعه وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فهذا هو الحق الذي انكشف لأرباب القلوب بمشاهدة أوضح من إبصار العين بل خلقك ، وخلق أعضاءك ، وخلق فيها القوة والقدرة والصحة وخلق لك العقل والعلم ، وخلق لك الإرادة ، ولو أردت أن تنفي شيئا من هذا عن نفسك لم تقدر عليه ، ثم خلق الحركات في أعضائك مستبدا باختراعها من غير مشاركة من جهتك معه في الاختراع إلا أنه خلقه على ترتيب فلم يخلق الحركة ما لم يخلق في العضو قوة وفي القلب إرادة ولم يخلق إرادة ما لم يخلق علما بالمراد ، ولم يخلق علما ما لم يخلق القلب الذي هو محل العلم فتدريجه في الخلق شيئا بعد شيء هو الذي خيل لك أنك أوجدت عملك ، وقد غلطت .
وإيضاح ذلك ، وكيفية الثواب على عمل هو من خلق الله سيأتي تقريره في كتاب الشكر ؛ فإنه أليق به ، فارجع إليه .