الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه .

اعلم أن العجب بالأسباب التي بها يتكبر ، كما ذكرناه ، وقد يعجب بما لا يتكبر به كعجبه بالرأي الخطأ الذي يزين له بجهله .

فما به العجب ثمانية أقسام :

الأول : أن يعجب ببدنه في جماله وهيئته وصحته وقوته ، وتناسب أشكاله ، وحسن صورته ، وحسن صوته ، وبالجملة تفصيل خلقته ، فيلتفت إلى جمال نفسه ، وينسى أنه نعمة من الله تعالى وهو بعرضة الزوال في كل حال وعلاجه : ما ذكرناه في الكبر بالجمال ، وهو التفكر في أقذار باطنه وفي أول أمره وفي آخره وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة أنها كيف تمزقت في التراب وأنتنت ، في القبور حتى استقذرتها الطباع .

الثاني البطش والقوة ، كما حكي عن قوم عاد حين قالوا فيما أخبر الله عنهم من أشد منا قوة وكما اتكل عوج على قوته وأعجب بها فاقتلع جبلا ليطبقه على عسكر موسى عليه السلام فثقب الله تعالى تلك القطعة من الجبل بنقر هدهد ضعيف المنقار حتى صارت في عنقه وقد يتكل المؤمن أيضا على قوته ، كما روي عن سليمان عليه السلام أنه قال : « لأطوفن الليلة على مائة امرأة ، ولم يقل : إن شاء الله تعالى ، فحرم ما أراد من الولد » .

وكذلك قول داود عليه السلام : إن ابتليتني صبرت وكان إعجابا منه بالقوة فلما ابتلي بالمرأة لم يصبر .

ويورث العجب بالقوة الهجوم في الحروب ، وإلقاء النفس في التهلكة ، والمبادرة إلى الضرب والقتل لكل من قصده بالسوء . وعلاجه : ما ذكرناه ، وهو أن يعلم أن حمى يوم تضعف قوته وأنه إذا أعجب بها ربما سلبها الله تعالى بأدنى آفة يسلطها عليه .

الثالث : العجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور من مصالح الدين والدنيا ، وثمرته الاستبداد بالرأي ، وترك المشورة ، واستجهال الناس المخالفين له ولرأيه ويخرج إلى قلة الإصغاء إلى أهل العلم ؛ إعراضا عنهم ، بالاستغناء بالرأي والعقل ، واستحقارا لهم ، وإهانة . وعلاجه : أن يشكر الله تعالى على ما رزق من العقل ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك منه ، فلا يأمن من أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره وليستقصر عقله وعلمه وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا وإن اتسع علمه وأن ما جهله مما عرفه الناس أكثر مما عرفه فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى ؟! وأن يتهم عقله ، وينظر إلى الحمقى كيف يعجبون بعقولهم ، ويضحك الناس منهم ، فيحذر أن يكون منهم وهو لا يدري .

فإن القاصر العقل قط لا يعلم قصور عقله فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من نفسه ومن ، أعدائه لا من أصدقائه فإن من يداهنه يثني عليه فيزيده عجبا وهو لا يظن بنفسه إلا الخير ، ولا يفطن لجهل نفسه ، فيزداد عجبا .

التالي السابق


(بيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه) *

(اعلم) هداك الله (أن العجب بالأسباب التي بها يتكبر، كما ذكرنا، وقد يعجب بما لا يتكبر به كعجبه [ ص: 417 ] بالرأي الخطأ الذي يزين له بجهله .

فما به العجب ثمانية أقسام:

الأول: أن يعجب ببدنه في جماله وهيئته وصحته وقوته، وتناسب أشكاله، وحسن صورته، وحسن صوته، وبالجملة تفصيل خلقته، فيلتفت إلى جمال نفسه، وينسى أنه نعمة من الله) تعالى (وهو) مع ذلك (بعرضة الزوال) أي: مظنة لأن يعرض له زوال ما يتكبر به (في كل حال) من أحواله .

(وعلاجه: ما ذكرناه في الكبر بالجمال، وهو التفكر في أقذار باطنه) أي: ما في باطنه من المستقذرات، (و) التفكر (في أول أمره) كيف بدئ؟! ومن أي شيء خلق؟! (وآخره) كيف يعود؟! (وفي الوجوه الجميلة) الوضيئة (والأبدان الناعمة) المربربة (أنها كيف تمزقت في التراب، وانثنت في القبور حتى استقذرتها الطباع) ونفرت من مقاربتها والنظر إليها .

(الثاني: القوة والبطش، كما حكي عن قوم عاد حين قالوا فيما أخبر الله عنهم) : فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا ( من أشد منا قوة ) اغترارا بقدرتهم وشوكتهم، فرد الله عليهم فقال: أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وعاد قبيلة من العرب الأول، وهم قوم هود -عليه السلام- قال الليث: هم بنو عاد بن عاديا بن سام بن نوح عليه السلام، قال زهير:


وأهلك لقمان بن عاد وعاديا



وأما عاد الآخرة فهم بنو تميم، ينزلون رمال عالج، عصوا الله فمسخوا نسناسا، وقال أئمة النسب: عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، كان يعبد القمر، ويقال: إنه رأى من صلبه وأولاده وأولاد أولاده أربعة آلاف، وأنه نكح ألف جارية، ومن أولاده شداد بن عاد، صاحب المدينة المذكورة .

(وكما اتكل عوج) بالضم (على قوته فأعجب بها) وهو رجل ذكر أنه ولد في منزل آدم -عليه السلام- وعاش إلى زمن موسى -عليه السلام- قال القزاز في جامع اللغة: هو رجل من الفراعنة كان يوصف من الطول بأمر شنيع، قال الخليل: ذكر أنه كان إذا قام كان السحاب له مئزرا، قال (فاقتلع جبلا) أي: صخرة كبيرة منه (ليطبقه على عسكر موسى) -عليه السلام- فدعا موسى إلى ربه بهلاكه (فثقب الله تعالى تلك القطعة من الجبل) بأن سلط عليه طيرا فثقبه بمنقاره (حتى صارت في عنقه) ولم يزل بها حتى هلك بها، ولم تنفعه قوته شيئا .

واختلف في اسم أبيه، فقيل: عنق، بضم العين والنون، وهذا هو المشهور على الألسنة، وخطأه صاحب القاموس، وقال: الصواب عوق، بالضم وسكون الواو، قال شيخنا أبو عبد الله محمد بن الطيب الفاسي في حاشيته على القاموس: زعم بعض الحفاظ المؤرخين أن عنق اسم أم عوج وعوق أبوه، فعلى هذا لا خطأ ولا غلط، وفي شعر عرقلة الدمشقي المتوفى سنة 567:


أعور الدجال يشمي خلف عوج بن عناق

وهو ثقة عارف، وتمام الكلام عليه في شرحي على القاموس، فراجعه .

(وقد يتكل المؤمن أيضا على قوته، كما روي عن سليمان -عليه السلام- أنه قال: "لأطوفن الليلة على مائة امرأة، ولم يقل: إن شاء الله، فحرم ما أراد من الولد") رواه أحمد والشيخان والنسائي من حديث أبي هريرة بلفظ: "قال سليمان بن داود -عليه السلام-: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق إنسان، والذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركا لحاجته، يجاهدون في سبيل الله فرسانا أجمعون".

*شرح الحديث:

في رواية: "لأطيفن" قال عياض: وهما لغتان فصيحتان، واللام موطئة للقسم، أي: والله لأدورن الليلة، أي: في الليلة على مائة امرأة، فكنى بالطواف عن الجماع. وفي رواية: "على سبعين" وفي أخرى: "تسعين" وجمع بأن البعض سراري والبعض حرائر، على أن القليل لا ينفي الكثير، بل مفهوم العدد ليس بحجة عند الأكثرين "كلهن يأتي بفارس" أي: تلد ولدا ويصير فارسا، فقال له صاحبه، أي: قرينه وبطانته، أو وزيره من الإنس، أو خاطره، وفي رواية: "الملك" قل: إن شاء الله ذلك، فلم يقل، أي: بلسانه؛ لنسيان عرض له، فعلة الترك النسيان لا الإباء عن التفويض إلى الرحمن، فصرف عن الاستثناء القدر السابق أن يكون ما تمنى، وفيه تقديم وتأخير، أي: لم يقل: إن شاء الله، فقال له صاحبه: قل، ذكره عياض، فطاف عليهن جميعا في ليلة واحدة، وفيه دلالة على ما رزقه الأنبياء -عليهم السلام- من [ ص: 418 ] القوة في الجماع، وأنها في الرجال فضيلة، وهي تدل على صحة الذكورية، وكمال الإنسانية.

فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق إنسان، قيل: هو الجسد الذي ألقي على كرسيه، والذي وفي رواية: "أما والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لم يحنث" أي: لو سلك طريق الأدب والتفويض لأدرك مراده، وهذه منقبة عظيمة لسليمان -عليه السلام- حيث كان همه الأعظم إعلاء كلمة الله؛ حيث عزم أن يرسل أولاده الذين هم أكباده إلى الجهاد المؤدي إلى الموت .

(وكذلك قول) والده (داود -عليه السلام-: إن ابتليتني صرت) كما أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، وتقدم قريبا (وكان إعجابا للقوة) ورؤيتها (فلما ابتلي بالمرأة لم يصبر .

ويورث العجب بالقوة الهجوم في الحروب، وإلقاء النفس في التهلكة، والمبادرة إلى الضرب والقتل لكل من قصده بالسوء .

وعلاجه: ما ذكرناه، وهو أن يعلم أن حمى يوم) إذا أطبقت عليه (تضعف قوته) أي: قوة سنة كما صرح به الأطباء (وأنه إذا أعجب بها سلبها الله تعالى بأدنى آفة يسلطها عليه .

الثالث: العجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور من صلاح الدين والدنيا، وثمرته الاستبداد) أي: الاستقلال (بالرأي، وترك المشورة، واستجهال الناس المخالفين له ولرأيه) واستبلادهم .

(ويخرجه ذلك إلى قلة الإصغاء إلى أهل العلم؛ إعراضا عنهم، بالاستغناء بالرأي والعقل، واستحقارا لهم، وإهانة .

وعلاجه: أن يشكر الله تعالى على ما رزقه من العقل) والمعرفة (ويفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه كيف يوسوس ويجن) فيتغير عقله (بحيث يضحك منه، فلا يأمن أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره) فما من نعمة (لم يؤد شكرها فقد عرضها للزوال) وليستصغر عقله وعمله وليعلم أنه ما أوتي من العمل إلا قليلا (وإن اتسع علمه) لقوله تعالى: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .

(و) ليعلم (أن ما جهله مما عرفه الناس أكثر مما علمه) هو (فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى؟! وأن يتهم عقله، وينظر إلى الحمقى) الناقصين (كيف يعجبون بعقولهم، ويضحك الناس منهم، فيحذر أن يكون منهم وهو لا يدري، فإن القاصر العقل قط لا يعلم قصور عقله) ولو علمه لسعى في إزالة قصوره .

(فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من نفسه، و) أن يعرف مقداره (من أعدائه) وحساد نعمته (لا من أصدقائه) ومعتقديه (فإن من يداهنه يثني عليه) ويمدحه (فيزيده عجبا) وتيها (وهو لا يظن بنفسه إلا الخير، ولا يفطن لجهل نفسه، فيزداد به عجبا) .




الخدمات العلمية