أما الذين غرتهم الحياة الدنيا ، فهم الذين قالوا : النقد خير من النسيئة والدنيا نقد ، والآخرة نسيئة فهي إذن ، خير فلا بد من إيثارها وقالوا اليقين خير من الشك ، ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك فلا نترك اليقين بالشك .
وهذه أقيسة فاسدة تشبه قياس إبليس حيث قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وإلى هؤلاء الإشارة بقوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وعلاج هذا الغرور : إما بتصديق الإيمان ، وإما بالبرهان ; أما التصديق بمجرد الإيمان فهو أن يصدق الله تعالى في قوله : ما عندكم ينفد وما عند الله باق ، وفي قوله عز وجل : وما عند الله خير وأبقى ، وقوله: والآخرة خير وأبقى ، وقوله: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ، وقوله: فلا تغرنكم الحياة الدنيا وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك طوائف من الكفار فقلدوه وصدقوه وآمنوا به ولم يطالبوه بالبرهان .
ومنهم من قال: نشدتك الله أبعثك الله رسولا فكان يقول: نعم ، فيصدق، وهذا إيمان العامة ، وهو يخرج من الغرور ، وينزل هذا منزلة تصديق الصبي والده في أن حضور المكتب خير من حضور الملعب مع أنه لا يدري وجه كونه خيرا .
وأما المعرفة بالبيان والبرهان فهو أن يعرف وجه فساد هذا القياس الذي نظمه في قلبه الشيطان فإن كل مغرور فلغروره سبب وذلك السبب هو دليل وكل دليل فهو نوع قياس يقع في النفس ، ويورث السكون إليه وإن كان صاحبه لا يشعر به ، ولا يقدر على نظمه بألفاظ العلماء .
فالقياس الذي نظمه الشيطان فيه أصلان .
أحدهما أن الدنيا نقد والآخرة نسيئة ، وهذا صحيح .
والآخر قوله إن النقد خير من النسيئة ، وهذا محل التلبيس ، فليس الأمر كذلك ، بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير ; وإن كان أقل منها ، فالنسيئة خير فإن الكافر المغرور يبذل في تجارته درهما ليأخذ عشرة نسيئة ، ولا يقول : النقد خير من النسيئة فلا أتركه ، وإذا حذره الطبيب الفواكه ولذائذ الأطعمة ترك ذلك في الحال خوفا من ألم المرض في المستقبل فقد ، ترك النقد ورضي بالنسيئة .
والتجار ، كلهم يركبون البحار ، ويتعبون في الأسفار نقدا لأجل الراحة ، والربح نسيئة فإن كل عشرة في ثاني الحال خيرا من واحد في الحال فأنسب لذة الدنيا من حيث مدتها إلى مدة الآخرة ، فإن أقصى عمر الإنسان مائة سنة وليس هو عشر عشير من جزء من ألف ألف جزء من الآخرة .
فكأنه ترك واحدا ليأخذ ألف ألف ، بل ليأخذ ما لا نهاية له ولا حد ، وإن نظر من حيث النوع رأى لذات الدنيا مكدرة مشوبة بأنواع المنغصات ولذات الآخرة صافية غير مكدرة فإذن قد غلط في قوله : النقد خير من النسيئة فهذا غرور منشؤه قبول لفظ عام مشهور أطلق وأريد به خاص فغفل به المغرور عن خصوص معناه .
فإن من قال : النقد خير من النسيئة أراد به خيرا من نسيئة هي مثله وإن لم يصرح به .
وعند هذا يفزع الشيطان إلى القياس الآخر وهو أن اليقين خير من الشك إذا الآخرة شك وهذا القياس أكثر فسادا من الأول ; لأن كلا أصليه باطل إذ ; اليقين خير من الشك إذا كان مثله وإلا فالتاجر في تعبه على يقين .
وفي ربحه على شك والمتفقه في جهاده على يقين ، وفي إدراكه رتبة العلم على شك والصياد ، في تردده في المقتنص على يقين ، وفي الظفر بالصيد على شك وكذا ، الحزم دأب العقلاء بالاتفاق ، وكل ذلك ترك اليقين بالشك ، ولكن التاجر يقول : إن لم أتجر بقيت جائعا ، وعظم ضرري ، وإن اتجرت كان تعبي قليلا ، وربحي كثيرا ، وكذلك المريض يشرب الدواء البشع الكريه ، وهو من الشفاء على شك ، ومن مرارة الدواء على يقين ، ولكن يقول : ضرر مرارة الدواء قليل بالإضافة إلى ما أخافه من المرض والموت فكذلك ، من شك في الآخرة ، فواجب عليه بحكم الحزم أن يقول : أيام الصبر قلائل ، وهو منتهى العمر بالإضافة إلى ما يقال من أمر الآخرة ، فإن كان ما قيل فيه كذبا فما يفوتني إلا التنعم أيام حياتي ، وقد كنت في العدم من الأزل إلى الآن لا أتنعم ، فأحسب أني بقيت في العدم .
وإن كان ما قيل صدقا فأبقى في النار أبد الآباد ، وهذا لا يطاق .
ولهذا ، قال علي كرم الله وجهه لبعض الملحدين إن كان ما قلته حقا فقد تخلصت وتخلصنا ، وإن كان ما قلناه حقا فقد تخلصنا وهلكت وما قال هذا عن شك منه في الآخرة ، ولكن كلم الملحد على قدر عقله ، وبين له أنه وإن لم يكن متيقنا فهو مغرور .
وأما الأصل الثاني من كلامه ، وهو أن الآخرة شك فهو أيضا خطأ ، بل ذلك يقين عند المؤمنين ، وليقينه مدركان :
أحدهما الإيمان والتصديق تقليدا للأنبياء والعلماء ; وذلك أيضا يزيل الغرور ، وهو مدرك يقين العوام ، وأكثر الخواص ومثالهم ، مثال مريض لا يعرف دواء علته ، وقد اتفق الأطباء وأهل الصناعة من عند آخرهم على أن دواءه النبت الفلاني فإنه يطمئن نفس المريض إلى تصديقهم ، ولا يطالبهم بتصحيح ذلك بالبراهين الطبية ، بل يثق بقولهم ويعمل به ولو بقي سوادي أو معتوه يكذبهم في ذلك وهو يعلم بالتواتر وقرائن الأحوال أنهم أكثر منه عددا ، وأغزر منه فضلا ، وأعلم منه بالطب ، بل لا علم له بالطب فيعلم كذبه بقولهم ، ولا يعتقد كذبهم بقوله ، ولا يغتر في علمهم بسببه ، ولو اعتمد قوله وترك قول الأطباء كان معتوها مغرورا فكذلك من نظر إلى المقرين بالآخرة ، والمخبرين عنها .


