وهذا القدر من الإيمان كاف لجملة الخلق ، وهو يقين جازم يستحث على العمل لا محالة ، والغرور يزول به .
وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة فهو الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء ولا تظنن أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الآخرة ولأمور ، الدين تقليد لجبريل عليه السلام بالسماع منه ، كما أن معرفتك تقليد للنبي صلى الله عليه وسلم ، حتى تكون معرفتك مثل معرفته ، وإنما يختلف المقلد فقط ، وهيهات فإن التقليد ليس بمعرفة ، بل هو اعتقاد صحيح والأنبياء عارفون ومعنى معرفتهم أنه كشف لهم حقيقة الأشياء كما هي عليها فشاهدوها بالبصيرة الباطنة ، كما تشاهد أنت المحسوسات بالبصر الظاهر فيخبرون عن مشاهدة لا عن سماع وتقليد .
وذلك بأن يكشف لهم عن حقيقة الروح ، وأنه من أمر الله تعالى ، وليس المراد بكونه من أمر الله الأمر الذي يقابل النهي ; لأن ذلك الأمر كلام ، والروح ليس بكلام ، وليس المراد بالأمر الشأن حتى يكون المراد به أنه من خلق الله فقط ; لأن ذلك عام في جميع المخلوقات .
بل العالم عالمان : عالم الأمر ، وعالم الخلق . ولله الخلق والأمر فالأجسام ذوات الكمية والمقادير من عالم الأمر الخلق إذا ; الخلق عبارة عن التقدير في وضع اللسان وكل موجود منزه عن الكمية والمقدار فإنه من عالم الأمر وشرح ذلك سر الروح ، ولا رخصة في ذكره لاستضرار أكثر الخلق بسماعه كسر القدر الذي منع من إفشائه .
فمن عرف سر الروح فقد عرف نفسه ، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه ، وإذا عرف نفسه وربه عرف أنه أمر رباني بطبعه وفطرته ، وأنه في العالم الجسماني غريب ، وأن هبوطه إليه لم يكن بمقتضى طبعه في ذاته ، بل بأمر عارض غريب من ذاته وذلك العارض الغريب ورد على آدم صلى الله عليه وسلم ، وعبر عنه بالمعصية ، وهي التي حطته عن الجنة التي هي أليق به بمقتضى ذاته فإنها في جوار الرب تعالى ، وأنه أمر رباني ، وحنينه إلى جواب الرب تعالى له طبعي ذاتي إلا أن يصرفه عن مقتضى طبعه عوارض العالم الغريب من ذاته ، فينسى عند ذلك نفسه وربه .
ومهما فعل ذلك فقد ظلم نفسه ، إذ قيل له : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون أي : الخارجون عن مقتضى طبعهم ، ومظنة استحقاقهم .
يقال : فسقت الرطبة عن كمامها ، إذا خرجت عن معدنها الفطري .
وهذه إشارة إلى أسرار يهتز لاستنشاق روائحها العارفون وتشمئز من سماع ألفاظها القاصرون فإنها تضر بهم
كما تضر رياح الورد بالجعل
وتبهر أعينهم الضعيفة كما تبهر الشمس أبصار الخفافيش .وانفتاح هذا الباب من سر القلب إلى عالم الملكوت يسمى معرفة وولاية ويسمى صاحبه وليا وعارفا ، وهي مبادئ مقامات الأنبياء .
وآخر مقامات الأولياء أول مقامات الأنبياء ولنرجع إلى الغرض المطلوب فالمقصود ، أن يدفع إما بيقين تقليدي وأما ببصيرة ومشاهدة من جهة الباطن . غرور الشيطان بأن الآخرة شك