فإن قلت : فأين الغلط في وقد قال : قول العصاة والفجار : إن الله كريم ، وإنا نرجو رحمته ومغفرته ، فما هذا إلا كلام صحيح مقبول الظاهر في القلوب ، فاعلم أن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر مردود الباطن ، ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن ذلك فقال : « أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن بي خيرا » . . « الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله »
وهذا هو التمني على الله تعالى غير الشيطان اسمه فسماه رجاء حتى خدع به الجهال .
وقد شرح الله الرجاء فقال : إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله يعني أن الرجاء بهم أليق وهذا لأنه ذكر أن ثواب الآخرة أجر وجزاء على الأعمال . قال الله تعالى : جزاء بما كانوا يعملون ، وقال تعالى: وإنما توفون أجوركم يوم القيامة أفترى أن من استؤجر على إصلاح أوان وشرط له أجرة عليها وكان الشارط كريما يفي بالوعد مهما وعد ولا يخلف بل يزيد فجاء الأجير ، وكسر الأواني ، وأفسد جميعها ، ثم جلس ينتظر الأجر ، ويزعم أن المستأجر كريم أفيراه ، العقلاء في انتظاره متمنيا مغرورا ، أو راجيا ، وهذا للجهل بالفرق بين الرجاء والغرة .
قيل للحسن قوم فقال : هيهات هيهات تلك أمانيهم يترجحون فيها ، من رجا شيئا طلبه ، ومن خاف شيئا هرب منه . يقولون : نرجو الله ، ويضيعون العمل
وقال مسلم بن يسار لقد سجدت البارحة حتى سقطت ثنيتاي فقال له رجل : إنا لنرجو الله . فقال مسلم : هيهات هيهات من رجا شيئا طلبه ، ومن خاف شيئا هرب منه .
وكما أن الذي يرجو في الدنيا ولدا ، وهو بعد لم ينكح أو نكح ، ولم يجامع ، أو جامع ولم ينزل فهو معتوه فكذلك من رجا رحمة الله وهو لم يؤمن أو آمن ولم يعمل صالحا ، أو عمل ولم يترك المعاصي فهو مغرور .
فكما ، أنه إذا نكح ووطئ وأنزل بقي مترددا في الولد يخاف ويرجو فضل الله في خلق الولد ، ودفع الآفات عن الرحم ، وعن الأم إلى أن يتم فهو كيس فكذلك إذا آمن وعمل الصالحات ، وترك السيئات وبقي مترددا بين الخوف والرجاء ، يخاف أن لا يقبل منه ، وأن لا يدوم عليه ، وأن يختم له بالسوء ويرجو ، من الله تعالى أن يثبته بالقول الثابت ويحفظ دينه من صواعق سكرات الموت حتى يموت على التوحيد ويحرس قلبه عن الميل إلى الشهوات بقية عمره حتى لا يميل إلى المعاصي فهو كيس ومن عدا هؤلاء فهم المغرورون بالله ، وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ، ولتعلمن نبأه بعد حين ، وعند ذلك يقولون كما : أخبر الله عنهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون أي : علمنا أنه كما لا يولد إلا بوقاع ونكاح ، ولا ينبت زرع إلا بحراثة وبث بذر فكذلك لا يحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح فارجعنا ، نعمل صالحا ، فقد علمنا الآن صدقك في قولك وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير أي ألم نسمعكم سنة الله في عباده ، وأنه توفي كل نفس ما كسبت وأن كل نفس بما كسبت رهينة فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم وعقلتم ? قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير .
فإن قلت : فأين مظنة الرجاء وموضعه المحمود ? فاعلم أنه محمود في موضعين :
أحدهما في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة ، فقال له الشيطان وأنى تقبل توبتك ؟! فيقنطه من رحمة الله تعالى ، فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء ، ويتذكر أن الله يغفر الذنوب جميعا وأن الله كريم : يقبل التوبة عن عباده وأن التوبة طاعة تكفر الذنوب قال الله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم أمرهم بالإنابة وقال تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج وإن توقع المغفرة مع الإصرار فهو مغرور ، كما أن من ضاق عليه وقت الجمعة ، وهو في السوق فخطر له أن يسعى إلى الجمعة فقال له الشيطان إنك : لا تدرك الجمعة فأقم على موضعك ، فكذب الشيطان ، ومر يعدو ، وهو يرجو أن يدرك الجمعة ، فهو راج ، وإن استمر على التجارة ، وأخذ يرجو تأخير الإمام للصلاة لأجله إلى وسط الوقت أو لأجل غيره ، أو لسبب من الأسباب التي لا يعرفها ، فهو مغرور .