وفرقة أخرى وتتبع مناقضاتهم ، واستكثروا من معرفة المقالات المختلفة واشتغلوا بتعلم الطرق في مناظرة أولئك ، وإفحامهم وافترقوا في ذلك فرقا كثيرة واعتقدوا أنه لا يكون لعبد عمل إلا بإيمان ، ولا يصح إيمان إلا بأن يتعلم جدلهم ، وما سموه أدلة عقائدهم ، وظنوا أنه لا أحد أعرف بالله وبصفاته منهم ، وأنه لا إيمان لمن لم يعتقد مذهبهم ، ولم يتعلم علمهم ودعت كل فرقة منهم إلى نفسها . اشتغلوا بعلم الكلام ، والمجادلة في الأهواء ، والرد على المخالفين
ثم هم فرقتان ضالة ومحقة ، فالضالة هي التي تدعو إلى غير السنة ، والمحقة هي التي تدعو إلى السنة ، والغرور شامل لجميعهم .
أما الضالة فلغفلتها عن ضلالها ، وظنها بنفسها النجاة ، وهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا وإنما ، أتيت من حيث إنها لم تتهم رأيها ، ولم تحكم أولا شروط الأدلة ومنهاجها ، فرأى أحدهم الشبهة دليلا ، والدليل شبهة .
وأما الفرقة المحقة فإنما اغترارها من حيث إنها ظنت بالجدل أنه أهم الأمور ، وأفضل القربات في دين الله ، وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يفحص ويبحث وأن ، من صدق الله ورسوله من غير بحث وتحرير دليل فليس بمؤمن أو ليس كامل الإيمان ، ولا مقرب عند الله .
فلهذا الظن الفاسد قطعت أعمارها في تعلم الجدل والبحث عن المقالات وهذيانات المبتدعة ومناقضاتهم ، وأهملوا أنفسهم وقلوبهم حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب عند الله وأفضل ولكنه لالتذاذه بالغلبة والإفحام ولذة الرياسة وعز الانتماء إلى الذب عن دين الله تعالى عميت بصيرته فلم يلتفت إلى القرن الأول فإن ، النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق وأنهم قد أدركوا كثيرا من أهل البدع والهوى ، فما جعلوا أعمارهم ودينهم غرضا للخصومات والمجادلات ، وما اشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم وأحوالهم ، بل لم يتكلموا فيه إلا من حيث رأوا حاجة وتوسموا مخايل قبول فذكروا بقدر الحاجة ما يدل الضال على ضلالته وإذا رأوا مصرا على ضلالة هجروه وأعرضوا عنه وأبغضوه في الله ، ولم يلزموا الملاحاة معه طول العمر ، بل قالوا : إن الحق هو الدعوة إلى السنة ، ومن السنة ترك الجدل في الدعوة إلى السنة .
إذ روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبو أمامة الباهلي
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على أصحابه وهم يتجادلون، ويختصمون ، فغضب عليهم حتى كأنه فقئ في وجهه حب الرمان حمرة من الغضب ، فقال: ألهذا بعثتم ؟! أبهذا أمرتم ; أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟! انظروا إلى ما أمرتم به فاعملوا ، وما نهيتم عنه فانتهوا » فقد زجرهم عن ذلك ، وكانوا أولى خلق الله بالحجاج والجدال . ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل .
، ثم إنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد بعث إلى كافة أهل الملل فلم يقعد معهم في مجلس مجادلة لإلزام ، وإفحام ، وتحقيق حجة ، ودفع سؤال ، وإيراد إلزام ، فما جادلهم إلا بتلاوة القرآن المنزل عليهم ، ولم يزد في المجادلة عليه لأن ذلك يشوش القلوب ، ويستخرج منها الإشكالات والشبه ، ثم لا يقدر على محوها من قلوبهم وما كان يعجز عن مجادلتهم بالتقسيمات ودقائق الأقيسة ، وأن يعلم أصحابه كيفية الجدل والإلزام ولكن الأكياس وأهل الحزم لم يغتروا بهذا ، وقالوا : لو نجا أهل الأرض ، وهلكنا لم تنفعنا نجاتهم ، ولو نجونا ، وهلكوا لم يضرنا هلاكهم ، وليس علينا في المجادلة أكثر مما كان على الصحابة مع اليهود والنصارى وأهل الملل وما ضيعوا العمر بتحرير مجادلاتهم فما لنا نضيع العمر ولا نصرفه إلى ما ينفعنا في يوم فقرنا وفاقتنا ولم نخوض فيما لا نأمن على أنفسنا الخطأ في تفاصيله ، ثم نرى أن المبتدع ليس يترك بدعته بجداله بل يزيده التعصب والخصومة تشددا في بدعته فاشتغالي بمخاصمة نفسي ، ومجادلتها ومجاهدتها ; لتترك الدنيا للآخرة أولى ، هذا لو كنت لم أنه عن الجدل والخصومة ، فكيف وقد نهيت عنه وكيف ؟ أدعو إلى السنة بترك السنة ، فالأولى أتفقد نفسي ، وأنظر من صفاتها ما يبغضه الله تعالى ، وما يحبه لأتنزه عما يبغضه وأتمسك بما يحبه .