وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير ، وأعلاهم رتبة يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات ، ودعوا الخلق إليها فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين ، وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله وما ، قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون وما ، وقعوا على خفايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون ، ولولا أنه مقرب عند الله لا عرفه معنى القرب والبعد وعلم السلوك إلى الله ، وكيفية قطع المنازل في طريق الله ، فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الخائفين ، وهو آمن من الله تعالى ، ويرى أنه من الراجين ، وهو من المغترين المضيعين ويرى أنه من الراضين بقضاء الله ، وهو من الساخطين ويرى أنه من المتوكلين على الله ، وهو من المتكلين على العز والجاه والمال والأسباب ويرى أنه من المخلصين ، وهو من المرائين . من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق ونظائره ، وهم مغرورون
بل يصف الإخلاص فيترك الإخلاص في الوصف ويصف الرياء ويذكره وهو يرائي بذكره ليعتقد فيه أنه لولا أنه مخلص لما اهتدى إلى دقائق الرياء ، ويصف الزهد في الدنيا لشدة حرصه على الدنيا وقوة رغبته فيها .
فهو يظهر الدعاء إلى الله وهو منه فار ، ويخوف بالله تعالى وهو منه آمن .
ويذكر بالله تعالى وهو له ناس ، ويقرب إلى الله وهو منه متباعد ، ويحث على الإخلاص وهو غير مخلص ، ويذم الصفات المذمومة وهو بها متصف ، ويصرف الناس عن الخلق وهو على الخلق أشد حرصا لو منع عن مجلسه الذي يدعو الناس فيه إلى الله لضاقت عليه الأرض بما رحبت ويزعم أن غرضه إصلاح الخلق ، ولو ظهر من أقرانه من أقبل الخلق عليه وصلحوا على يديه لمات ، غما وحسدا ، ولو أثنى أحد من المترددين إليه على بعض أقرانه ، لكان أبغض خلق الله إليه .
فهؤلاء أعظم الناس غرة ، وأبعدهم عن التنبه والرجوع إلى السداد لأن المرغب في الأخلاق المحمودة ، والمنفر عن المذمومة هو العلم بغوائلها وفوائدها ، وهذا قد علم ذلك ولم ينفعه ، وشغله حب دعوة الخلق عن العمل به .
فبعد ذلك بماذا يعالج ، وكيف سبيل تخويفه ، وإنما المخوف ما يتلوه على عباد الله فيخافون ، وهو ليس بخائف ، نعم إن ظن نفسه أنه موصوف بهذه الصفات المحمودة يمكن أن يدل على طريق الامتحان والتجربة ، وهو أن يدعي مثلا حب الله ، فما الذي تركه من محاب نفسه لأجله ، ويدعي الخوف ، فما الذي امتنع منه بالخوف ، ويدعي الزهد فما الذي تركه مع القدرة عليه لوجه الله تعالى ويدعي ، الأنس بالله ، فمتى طابت له الخلوة ، ومتى استوحش من مشاهدة الخلق ، لا بل يرى قلبه يمتلئ بالحلاوة إذا أحدق به المريدون وتراه يستوحش إذا خلا بالله تعالى ، فهل رأيت محبا يستوحش من محبوبه ، ويستروح منه إلى غيره ، فالأكياس يمتحنون أنفسهم بهذه الصفات ، ويطالبونها بالحقيقة ولا ، يقنعون منها بالتزويق بل بموثق من الله غليظ والمغترون يحسنون بأنفسهم الظنون وإذا ، كشف الغطاء عنهم في الآخرة يفتضحون بل يطرحون في النار فتندلق أقتابهم فيدور بها أحدهم كما يدور الحمار بالرحى ، كما ورد به الخبر ; لأنهم يأمرون بالخير ولا يأتونه ، وينهون عن الشر ويأتونه وإنما وقع الغرور لهؤلاء من حيث إنهم يصادفون في قلوبهم شيئا ضعيفا من أصول هذه المعاني، وهو ، حب الله والخوف منه والرضا بفعله ، ثم قدروا مع ذلك على وصف المنازل العالية ، في هذه المعاني ، فظنوا أنهم ما قدروا على وصف ذلك وما رزقهم الله علمه ، وما نفع الناس بكلامهم فيها إلا اتصافهم بها وذهب عليهم أن القبول للكلام ، والكلام للمعرفة ، وجريان اللسان والمعرفة للعلم وأن كل ، ذلك غير الاتصاف بالصفة ، فلم يفارق آحاد المسلمين في الاتصاف بصفة الحب والخوف ، بل في القدرة على الوصف ، بل ربما زاد أمنه ، وقل خوفه ، وظهر إلى الخلق ميله ، وضعف في قلبه حب الله تعالى ، وإنما مثاله : مثال مريض يصف المرض ويصف دواءه بفصاحته ، ويصف الصحة والشفاء وغيره من المرضى لا يقدر على وصف الصحة والشفاء وأسبابه ودرجاته وأصنافه ، فهو لا يفارقهم في صفة المرض والاتصاف به ، وإنما يفارقهم في الوصف والعلم بالطب فظنه عند علمه بحقيقة الصحة أنه صحيح غاية الجهل فكذلك العلم بالخوف والحب والتوكل والزهد وسائر هذه الصفات غير الاتصاف بحقائقها .
ومن التبس عليه وصف الحقائق بالاتصاف بالحقائق فهو مغرور .
فهذه حالة الوعاظ الذين لا عيب في كلامهم ، بل منهاج وعظهم منهاج وعظ القرآن والأخبار ، ووعظ وأمثاله رحمة الله عليهم . الحسن البصري