وفرقة أخرى فهمة أحدهم أن يدور في البلاد ويرى الشيوخ ليقول : أنا أروي عن فلان ولقد رأيت فلانا ومعي من الإسناد ما ليس مع غيري . استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث أعني في سماعه وجمع الروايات الكثيرة منه وطلب الأسانيد الغريبة العالية
، وغرورهم من وجوه منها أنهم كحملة الأسفار ; فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم معاني السنة ، فعلمهم قاصر وليس معهم إلا النقل ، ويظنون أن ذلك يكفيهم ومنها أنهم إذا لم يفهموا معانيها ولا يعملون بها ، وقد يفهمون بعضها أيضا ولا يعملون به .
ومنها أنهم يتركون العلم الذي هو فرض عين ، وهو معرفة علاج القلب ومنها وهو الذي أكب عليه أهل الزمان أنهم أيضا لا يقيمون بشرط السماع ; فإن السماع بمجرده ، وإن لم تكن له فائدة ، ولكنه مهم في نفسه للوصول إلا إثبات الحديث إذ ، التفهم بعد الإثبات ، والعمل بعد التفهم ، فالأول السماع ثم التفهم ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر وهؤلاء اقتصروا من الجملة على السماع ثم تركوا حقيقة السماع فترى الصبي يحضر في مجلس الشيخ والحديث يقرأ والشيخ ينام والصبي يلعب ثم يكتب اسم الصبي في السماع فإذا كبر تصدى ليسمع منه ، والبالغ الذي يحضر ربما يغفل ولا يسمع ولا يصغي ولا يضبط وربما يشتغل بحديث أو نسخ والشيخ الذي يقرأ عليه لو صحف وغير ما يقرأ عليه لم يشعر به ، ولم يعرفه وكل ذلك جهل وغرور . ويشتغلون بتكثير الأسانيد ، وطلب العالي منها ، ولا حاجة بهم إلى شيء من ذلك
إذ الأصل في الحديث أن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظه كما سمعه ويرويه ، كما حفظه فتكون الرواية عن الحفظ ، والحفظ عن السماع .
فإن عجزت عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته من الصحابة أو التابعين وصار سماعك عن الراوي كسماع من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أن تصغي لتسمع فتحفظ ، وتروي كما حفظت ، وتحفظ كما سمعت ، بحيث لا تغير منه حرفا ، ولو غير غيرك منه حرفا أو أخطأ علمت خطأه .
ولحفظك طريقان .
أحدهما أن تحفظ بالقلب ، وتستديمه بالذكر والتكرار كما تحفظ ما جرى على سمعك في مجاري الأحوال .
والثاني أن تكتب كما تسمع ، وتصحح المكتوب وتحفظه حتى لا تصل إليه يد من يغيره ، ويكون حفظك للكتاب معك ، وفي خزانتك فإنه لو امتدت إليه يد غيرك ربما غيره فإذا لم تحفظه لم تشعر بتغييره ، فيكون محفوظا بقلبك أو بكتابك ، فيكون كتابك مذكرا لما سمعته ، وتأمن فيه من التغيير والتحريف .
فإذا لم تحفظ لا بالقلب ولا بالكتاب وجرى على سمعك صوت غفل وفارقت المجلس ، ثم رأيت نسخة لذلك الشيخ وجوزت أن يكون ما فيه مغيرا أو يفارق حرفا منه للنسخة التي سمعتها لم يجز لك أن تقول : سمعت هذا الكتاب فإنك لا تدري لعلك لم تسمع ما فيه ، بل سمعت شيئا يخالف ما فيه ، ولو في كلمة .
فإذا لم يكن معك حفظ بقلبك ، ولا نسخة صحيحة استوثقت عليها لتقابل بها فمن أين تعلم أنك سمعت ذلك ، وقد قال الله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم وقول الشيوخ كلهم في هذا الزمان إنا سمعنا ما في هذا الكتاب إذا لم يوجد الشرط الذي ذكرناه فهو كذب صريح .