وفرقة أخرى وأنهم من علماء الأمة إذ قوام الدين بالكتاب والسنة ، وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو فأفنى هؤلاء أعمارهم في دقائق النحو وفي صناعة الشعر وفي غريب اللغة ومثالهم كمن يفني جميع العمر في تعلم الخط وتصحيح الحروف وتحسينها ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة ، فلا بد من تعلمها وتصحيحها ولو عقل لعلم أنه يكفيه أن يتعلم أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ كيفما كان ، والباقي زيادة على الكفاية وكذلك الأديب لو عقل لعرف أن لغة العرب كلغة الترك ، والمضيع عمره في معرفة لغة العرب كالمضيع له في معرفة لغة الترك اشتغلوا بعلم النحو ، واللغة ، والشعر ، وغريب اللغة ، واغتروا به وزعموا أنهم قد غفر لهم والهند وإنما فارقتها لغة العرب لأجل ورود الشريعة بها ، فيكفي من اللغة علم الغريبين في الأحاديث والكتاب ، ومن النحو ما يتعلق بالحديث والكتاب فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه ثم لو اقتصر عليه ، وأعرض عن معرفة معاني الشريعة والعمل بها فهذا أيضا مغرور ، بل مثاله مثاله مثال من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن ، واقتصر عليه وهو غرور ، إذ المقصود من الحروف المعاني وإنما الحروف ظروف وأدوات ، ومن احتاج إلى أن يشرب السكنجبين ليزول ما به من الصفراء وضيع أوقاته في تحسين القدح الذي يشرب فيه السكنجبين فهو من الجهال المغرورين فذلك والتدقيق في مخارج الحروف ، مهما تعمقوا فيها ، وتجردوا لها ، وعرجوا عليها أكثر مما يحتاج إليه في تعلم العلوم التي هي فرض عين فاللب الأقصى هو العمل ، والذي فوقه هو معرفة العمل ، وهو كالقشر للعمل ، وكاللب بالإضافة إلى ما فوقه وما فوقه هو سماع ، الألفاظ وحفظها بطريق الرواية ، وهو قشر بطريق الإضافة إلى المعرفة ، ولب بالإضافة إلى ما فوقه وما فوقه ، هو العلم باللغة والنحو وفوق ذلك ، وهو القشر الأعلى العلم بمخارج الحروف ، والقانعون بهذه الدرجات كلهم مغترون إلا من اتخذ هذه الدرجات منازل فلم يعرج عليها إلا بقدر حاجته فتجاوز إلى ما وراء ذلك حتى وصل إلى لباب العمل فطالب ، بحقيقة العمل قلبه وجوارحه ورجى عمره في حمل النفس عليه وتصحيح الأعمال وتصفيتها عن الشوائب والآفات . غرور أهل النحو واللغة والأدب والقراءات
فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع ، وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه وقشور له ومنازل بالإضافة إليه ، وكل من لم يبلغ المقصد فقد خاب سواء كان في المنزل القريب ، أو في المنزل البعيد .
وهذه العلوم لما كانت متعلقة بعلوم الشرع اغتر بها أربابها .
فأما فلا يعتقد أصحابها أنهم ينالون المغفرة بها من حيث إنها علوم ، فكان الغرور بها أقل من الغرور بعلوم الشرع ; لأن العلوم الشرعية مشتركة في أنها محمودة كما يشارك القشر اللب في كونه محمودا ، ولكن المحمود منه لعينه هو المنتهى . علم الطب والحساب والصناعات وما يعلم أنه ليس من علوم الشرع
، والثاني محمود للوصول به إلى المقصود الأقصى ، فمن اتخذ القشر مقصودا ، وعرج عليه فقد اغتر به .