وفرقة أخرى زهدت في المال ، وقنعت من اللباس والطعام بالدون ومن المسكن بالمساجد وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد ، وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو بالوعظ أو بمجرد الزهد فقد ترك أهون الأمرين ، وباء بأعظم المهلكين فإن الجاه أعظم من المال إذا الظن أنه من الزهاد في الدنيا ، وهو لم يفهم معنى الدنيا ، ولم يدر أن منتهى لذاتها لرياسة ، وأن الراغب فيها لا بد وأن يكون منافقا وحسودا ومتكبرا ومرائيا ومتصفا بجميع خبائث الأخلاق . ولو ترك الجاه ، وأخذ المال كان إلى السلامة أقرب فهذا مغرور ;
نعم ، وقد يترك الرياسة ، ويؤثر الخلوة والعزلة وهو مع ذلك مغرور إذ يتطول بذلك على الأغنياء ، ويخشن معهم الكلام ، وينظر إليهم بعين الاستحقار ، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم ، ويعجب بعمله ، ويتصف بجملة من خبائث القلوب ، وهو لا يدري وربما يعطى المال فلا يأخذه خيفة من أن يقال بطل زهده ولو قيل له : إنه حلال فخذه في الظاهر ، ورده في الخفية ، لم تسمح به نفسه خوفا من ذم الناس فهو راغب في حمد الناس وهو من ألذ أبواب الدنيا ، ويرى نفسه أنه زاهد في الدنيا ، وهو مغرور ومع ذلك ، فربما لا يخلو من توقير الأغنياء وتقديمهم على الفقراء والميل إلى المريدين له والمثنين عليه والنفرة ، عن الماثلين إلى غيره من الزهاد ، وكل ذلك خدعة وغرور من الشيطان نعوذ بالله منه .
وفي العباد من يشدد على نفسه في أعمال الجوارح حتى ربما يصلي في اليوم والليلة مثلا ألف ركعة ، ويختم القرآن وهو في جميع ذلك لا يخطر له مراعاة القلب وتفقده وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات ، فلا يدري أن ذلك مهلك ، وإن علم ذلك فلا يظن بنفسه ذلك ، وإن ظن بنفسه ذلك توهم أنه مغفور له لعمله الظاهر وأنه غير مؤاخذ بأحوال القلب ، وإن توهم فيظن أن العبادات الظاهرة تترجح بها كفة حسناته ، وهيهات وذرة من ذي تقوى وخلق واحد من أخلاق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملا بالجوارح ثم لا يخلو هذا المغرور مع سوء خلقه مع الناس ، وخشونته وتلوث باطنه عن الرياء وحب الثناء . فإذا قيل له : أنت من أوتاد الأرض وأولياء الله وأحبابه فرح المغرور بذلك ، وصدق به ، وزاده ذلك غرورا وظن أن تزكية الناس له دليل على كونه مرضيا عند الله ولا يدري أن ذلك لجهل الناس بخبائث باطنه .