وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام ; إذ قال الله تعالى إخبارا عنه : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ، وليس المعنى به هذه الأجسام المضيئة فإنه كان يراها في الصغر ، ويعلم أنها ليست آلهة وهي كثيرة وليست واحدا والجهال يعلمون أن الكوكب ليس بإله ، فمثل إبراهيم عليه السلام لا يغره الكوكب الذي لا يغر السوادية .
ولكن المراد به أنه نور من الأنوار التي هي من حجب الله عز وجل وهي على طريق السالكين ولا يتصور الوصول إلى الله تعالى إلا بالوصول إلى هذه الحجب ، وهي حجب من نور بعضها أكبر من بعض وأصغر النيرات الكوكب فاستعير له لفظه وأعظمها الشمس ، وبينهما رتبة القمر فلم يزل إبراهيم عليه السلام لما رأى ملكوت السموات حيث قال تعالى : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض يصل إلى نور بعد نور ، ويتخيل إليه في أول ما كان يلقاه أنه قد وصل ثم كان يكشف له أن وراءه أمرا فيترقى إليه ويقول : قد وصلت فيكشف له ما وراءه حتى وصل إلى الحجاب الأقرب الذي لا وصول إلا بعده فقال : هذا أكبر ، فلما ظهر له أنه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة الكمال قال لا أحب الآفلين إلى أن قال إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب وقد يغتر بالحجاب الأول ، وأول الحجب بين الله وبين العبد هو نفسه ، فإنه أيضا أمر رباني وهو نور من أنوار الله تعالى أعني سر القلب الذي تتجلى فيه حقيقة الحق كله حتى إنه ليتسع لجملة العالم ويحيط به وتتجلى فيه صورة الكل وعند ذلك يشرق نوره إشراقا عظيما ; إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه ، وهو في أول الأمر محجوب بمشكاة هي كالساتر له فإذا تجلى نوره ، وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله عليه ، ربما التفت صاحب القلب إلى القلب ، فيرى من جماله الفائق ما يدهشه وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة فيقول : أنا الحق فإنه لم يتضح له ما وراء ذلك اغتر به ووقف عليه وهلك ، وكان قد اغتر بكوكب صغير من أنوار الحضرة الإلهية ، ولم يصل بعد إلى القمر فضلا عن الشمس فهو مغرور ، وهذا محل الالتباس إذا المتجلي يلتبس بالمتجلى فيه كما يلتبس لون ما يتراءى في المرآة بالمرآة فيظن أنه لون المرآة وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج كما قيل :
رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر