فإذن بمباشرة حسنات تضاد آثارها آثار تلك السيئات ، هذا في قلب حصل أولا صفاؤه وجلاؤه ، ثم أظلم بأسباب عارضة فأما التصقيل الأول ففيه يطول الصقل إذ ليس شغل الصقل في إزالة الصدأ عن المرآة كشغله في عمل أصل المرآة ، فهذه أشغال طويلة لا تنقطع أصلا ، وكل ذلك يرجع إلى التوبة ، فأما قولك : إن هذا لا يسمى واجبا ، بل هو فضل وطلب كمال ، فاعلم أن الواجب له معنيان : أحدهما ما يدخل في فتوى الشرع ويشترك ، فيه كافة الخلق ، وهو القدر الذي لو اشتغل به كافة الخلق لم يخرب العالم فلو ، كلف الناس كلهم أن يتقوا الله حق تقاته لتركوا المعايش ورفضوا الدنيا بالكلية ثم يؤدي ذلك إلى بطلان التقوى بالكلية فإنه مهما فسدت المعايش لم يتفرغ أحد للتقوى بل شغل الحياكة . لا يستغني العبد في حال من أحواله عن محو آثار السيئات عن قلبه
والحراثة والخبز يستغرق جميع العمر من كل واحد فيما يحتاج إليه ، فجميع هذه الدرجات ليست بواجبة بهذا الاعتبار . والواجب الثاني هو الذي لا بد منه للوصول به إلى القرب المطلوب من رب العالمين والمقام المحمود بين الصديقين ، والتوبة عن جميع ما ذكرناه واجبة في الوصول إليه كما يقال : الطهارة واجبة في الصلاة للتطوع أي لمن يريدها ، فإنه لا يتوصل إليه إلا بها ، فأما من رضي بالنقصان والحرمان عن فضل صلاة التطوع فالطهارة ليست واجبة عليه لأجلها كما ، يقال : العين ، والأذن ، واليد ، والرجل شرط في وجود الإنسان ، يعني أنه شرط لمن يريد أن يكون إنسانا كاملا ينتفع بإنسانيته ، ويتوصل بها إلى درجات العلا في الدنيا ، فأما من قنع بأصل الحياة ورضي أن يكون كلحم على وضم وكخرقة مطروحة فليس يشترط لمثل هذه الحياة عين ويد ورجل ، فأصل الواجبات الداخلة في فتوى العامة لا يوصل إلا إلى أصل النجاة ، وأصل النجاة كأصل الحياة ، وما وراء أصل النجاة من السعادات التي بها تنتهي الحياة يجري مجرى الأعضاء والآلات التي ، بها تتهيأ الحياة وفيه سعي ، الأنبياء والأولياء ، والعلماء ، والأمثل فالأمثل وعليه كان حرصهم ، وحواليه كان تطوافهم ، ولأجله كان رفضهم لملاذ الدنيا بالكلية حتى انتهى عيسى عليه السلام إلى أن توسد حجرا في منامه فجاء إليه الشيطان ، وقال : أما كنت تركت الدنيا للآخرة ? فقال : نعم ، وما الذي حدث فقال : توسدك لهذا الحجر تنعم في الدنيا ، فلم لا تضع رأسك على الأرض ؟! فرمى عيسى عليه السلام بالحجر ، ووضع رأسه على الأرض وكان رميه للحجر توبة عن ذلك التنعم ، أفترى أن عيسى عليه السلام لم يعلم أن وضع الرأس على الأرض لا يسمى واجبا في فتاوى العامة ، أفترى أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لما شغله الثوب الذي كان عليه علم في صلاته حتى نزعه وشغله شراك نعله الذي جدده حتى أعاد الشراك الخلق لم يعلم أن ذلك ليس واجبا في شرعه الذي شرعه لكافة عباده فإذا ، علم ذلك فلم تاب عنه بتركه ، وهل كان ذلك إلا لأنه رآه مؤثرا في قلبه أثرا يمنعه عن بلوغ المقام المحمود الذي قد وعد به أفترى أن رضي الله عنه بعد أن شرب اللبن وعلم أنه على غير وجه أدخل إصبعه في حلقه ليخرجه حتى كاد يخرج معه روحه ما علم من الفقه هذا القدر ، وهو أن ما أكله عن جهل فهو غير آثم به ، ولا يجب في فتوى الفقه إخراجه فلم تاب عن شرابه بالتدارك على حسب إمكانه بتخلية المعدة عنه ، وهل كان ذلك إلا لسر وقر في صدره عرفه ، ذلك السر أن فتوى العامة حديث آخر وأن ، خطر طريق الآخرة لا يعرفه إلا الصديقون فتأمل أحوال هؤلاء الذين هم أعرف خلق الله بالله وبطريق الله ، وبمكر الله وبمكامن ، الغرور بالله ، وإياك مرة واحدة أن تغرك الحياة الدنيا ، وإياك ثم إياك ألف ألف مرة أن يغرك بالله الغرور فهذه أسرار من استنشق مبادئ روائحها علم أن لزوم التوبة النصوح ملازم للعبد السالك في طريق الله تعالى في كل نفس من أنفاسه ولو عمر عمر الصديق نوح وأن ذلك واجب على الفور من غير مهلة ولقد صدق حيث قال : لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير الطاعة لكان خليقا أن يحزنه ذلك إلى الممات ، فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله ? وإنما قال هذا لأن العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة وضاعت منه بغير فائدة بكى عليها لا محالة وإن ، ضاعت منه وصار ، ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه منها أشد وكل ساعة من العمر ، بل كل نفس جوهرة نفيسة لا خلف لها ولا بدل منها فإنها صالحة لأن توصلك إلى سعادة الأبد ، وتنقذك من شقاوة الأبد ، وأي جواهر أنفس من هذا فإذا ضيعتها في الغفلة فقد خسرت خسرانا مبينا ، وإن صرفتها إلى معصية فقد هلكت هلاكا فاحشا ، فإن كنت لا تبكي على هذه المعصية فذلك لجهلك ومصيبتك بجهلك ، أعظم من كل مصيبة ، لكن الجهل مصيبة لا يعرف المصاب بها أنه صاحب مصيبة ، فإن نوم الغفلة يحول بينه وبين معرفته ، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فعند ذلك ينكشف لكل مفلس إفلاسه ، ولكل مصاب مصيبته ، وقد وقع اليأس عن التدارك . أبو سليمان الداراني
قال بعض العارفين : إن ، فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها ، ويتدارك تفريطه فلا يجد إليه سبيلا وهو أول ما يظهر من معاني قوله تعالى : ملك الموت عليه السلام إذا ظهر للعبد أعلمه أنه بقي من عمرك ساعة ، وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين وحيل بينهم وبين ما يشتهون وإليه الإشارة بقوله تعالى : من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فقيل : الأجل القريب الذي يطلبه معناه أنه يقول عند كشف الغطاء للعبد يا ملك الموت أخرني يوما أعتذر فيه إلى ربي وأتوب ، وأتزود صالحا لنفسي فيقول فنيت الأيام فلا يوم ، فيقول فأخرني ساعة فيقول : فنيت الساعات فلا ساعة فيغلق عليه باب التوبة فيتغرغر بروحه ، وتتردد أنفاسه في شراسفه ويتجرع غصة اليأس عن التدارك ، وحسرة الندامة على تضييع العمر فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأحوال ، فإذا زهقت نفسه ، فإن كان سبقت له من الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد فذلك ، حسن الخاتمة ، وإن سبق له القضاء بالشقوة ، والعياذ بالله خرجت روحه على الشك والاضطراب وذلك سوء الخاتمة ، ولمثل هذا يقال : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن وقوله : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ومعناه عن قرب عهد بالخطيئة بأن يتندم عليها ويمحو أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم الرين على القلب فلا يقبل المحو ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أتبع السيئة الحسنة تمحها ولذلك قال لقمان لابنه يا بني : لا تؤخر التوبة ; فإن الموت يأتي بغتة .