ومراتب ذلك تنحصر ، وهي تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن ، وإلى ما يعلم أنه لا يدخل ، وإلى ما يشك فيه ، وطلب دفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع . المرتبة الثانية النفوس إذ ببقائها وحفظها تدوم الحياة ، وتحصل المعرفة بالله وإن كان دون الكفر ; لأن ذلك يصدم عين المقصود ، وهذا يصدم وسيلة المقصود إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى ، ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف وكل ما يفضي إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل ودفع الموجود قريب من قطع الوجود وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود ، ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التي لا ينتظم العيش إلا بها ، بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ، ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول ولذلك ، لا يتصور أن يكون الزنا مباحا في أصل شرع قصد به الإصلاح ، وينبغي أن يكون الزنا في الرتبة دون القتل ; لأنه ليس يفوت دوام الوجود ، ولا يمنع أصله ولكنه يفوت تمييز الأنساب ، ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضي إلى التقاتل وينبغي أن يكون أشد من اللواط ; لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ، ويعظم أثر الضرر بكثرته المرتبة الثالثة : الأموال فإنها معايش الخلق فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما ، بل ينبغي أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس ، إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها نعم ، إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغي أن يكون ذلك من الكبائر . وذلك بأربع طرق : أحدها الخفية : وهي السرقة فإنه إذا لم يطلع عليه غالبا كيف يتدارك الثاني : أكل مال اليتيم ، وهذا أيضا من الخفية ، وأعني به في حق الولي والقيم فإنه مؤتمن فيه ، وليس له خصم سوى اليتيم ، وهو صغير لا يعرفه ، فتعظيم الأمر فيه واجب ، بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف ، وبخلاف الخيانة في الوديعة ; فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه . الثالث : تفويتها بشهادة الزور الرابع : أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طريق لا يمكن فيها التدارك ، ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلا ، وبعضها أشد من بعض ، وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس وهذه الأربعة جديرة بأن تكون مرادة بالكبائر ، وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها ، ولكن أكثر الوعيد عليها وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها ، وأما أكل الربا فليس فيه إلا أكل مال الغير بالتراضي مع الإخلال بشرط وضعه الشرع ولا يبعد أن تختلف الشرائع في مثله ، وإذا لم يجعل الغضب الذي هو أكل مال الغير بغير رضاه وبغير رضا الشرع من الكبائر ، فأكل الربا أكل ، برضا المالك ، ولكن دون رضا الشرع ، وإن عظم الشرع الزنا بالزجر عنه فقد عظم أيضا الظلم بالغصب وغيره ، وعظم الخيانة والمصير إلى أن أكل دانق بالخيانة أو الغصب من الكبائر فيه نظر ، وذلك واقع في مظنة الشك . فقتل النفس لا محالة من الكبائر
، وأكثر ميل الظن إلى أنه غير داخل تحت الكبائر ، بل ينبغي أن تختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرع فيه ليكون ضروريا في الدين فيبقى مما ذكره القذف ، والشرب ، والسحر ، والفرار من الزحف وعقوق ، الوالدين ; أما الشرب لما يزيل العقل فهو جدير بأن يكون من الكبائر ، وقد دل عليه تشديدات الشرع وطريق النظر أيضا ; لأن العقل محفوظ كما أن النفس محفوظة بل لا خير في النفس دون العقل ، فإزالة العقل من الكبائر ، ولكن هذا لا يجري في قطرة من الخمر ، فلا شك في أنه لو شرب ماء فيه قطرة من الخمر لم يكن ذلك كبيرة ، وإنما هو شرب ماء نجس ، والقطرة وحدها في محل الشك ، وإيجاب الشرع الحد به يدل على تعظيم أمره ، فيعد ذلك من الكبائر بالشرع ، وليس في قوة البشرية الوقوف على جميع أسرار الشرع ، فإن ثبت إجماع في أنه كبيرة وجب الاتباع ولا ، فللتوقف فيه مجال . أبو طالب المكي