وكذلك وهذه الدرجات بحسب اختلاف الطاعات والمعاصي ، فلنذكر كيفية توزعها عليها . الهالكون الآيسون من رحمة الله تتفاوت دركاتهم ،
الرتبة الأولى : وهي رتبة الهالكين ، ونعني بالهالكين الآيسين من رحمة الله تعالى إذ الذي قتله الملك في المثال الذي ضربناه آيس من رضا الملك وإكرامه فلا تغفل عن معاني المثال وهذه الدرجة لا تكون إلا للجاحدين والمعرضين المتجردين للدنيا المكذبين بالله ورسله وكتبه فإن السعادة الأخروية في القرب من الله والنظر إلى وجهه وذلك لا ينال أصلا إلا بالمعرفة التي يعبر عنها بالإيمان والتصديق والجاحدون هم المنكرون ، والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الآباد وهم الذين يكذبون برب العالمين وبأنبيائه المرسلين إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة وكل محجوب من محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه لا محالة فهو لا محالة يكون مخترقا نار جهنم بنار الفراق ولذلك قال العارفون : ليس خوفنا من نار جهنم ، ولا رجاؤنا للحور العين وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا من الحجاب فقط ، وقالوا من يعبد الله بعوض فهو لئيم كأن يعبده لطلب جنته أو لخوف ناره ، بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها ، وأما النار فقد لا يتقيها إذ نار الفراق إذا استولت ربما غلبت النار المحرقة للأجسام فإن نار الفراق نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد ، ولذلك قيل .
وفي فؤاد المحب نار جوى أحر نار الجحيم أبردها ولا ينبغي أن تنكر هذا في عالم الآخرة ; إذ له نظير مشاهد في عالم الدنيا فقد رؤي من غلب عليه الوجد فغدا على النار ، وعلى أصول القصب الجارحة القدم ، وهو لا يحس به لفرط غلبة ما في قلبه وترى الغضبان يستولي عليه الغضب في القتال فتصيبه جراحات وهو لا يشعر بها في الحال لأن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الغضب نار في القلب الغضب قطعة من النار واحتراق الفؤاد أشد من احتراق الأجساد ، والأشد يبطل الإحساس بالأضعف كما تراه ، فليس الهلاك من النار والسيف إلا من حيث أنه يفرق بين جزأين يرتبط أحدهما بالآخر برابطة التأليف الممكن في الأجسام فالذي يفرق بين القلب وبين محبوبه الذي يرتبط به برابطة تأليف أشد إحكاما من تأليف الأجسام فهو أشد إيلاما ، إن كنت من أرباب البصائر ، وأرباب القلوب ، ولا يبعد أن لا يدرك من لا قلب له شدة هذا الألم ويستحقره بالإضافة إلى ألم الجسم ، فالصبي لو خير بين ألم الحرمان على الكرة والصولجان ، وبين ألم الحرمان عن رتبة السلطان لم يحس بألم الحرمان عن رتبة السلطان أصلا ، ولم يعد ذلك ألما ، وقال : العدو في الميدان مع الصولجان أحب إلي من ألف سرير للسلطان مع الجلوس عليه ، بل من تغلبه شهوة البطن لو خير بين الهريسة والحلواء وبين فعل جميل يقهر به الأعداء ويفرح به الأصدقاء لآثر الهريسة والحلواء وهذا كله لفقد المعنى الذي بوجوده يصير الجاه محبوبا ، ووجود المعنى الذي بوجوده يصير الطعام لذيذا ، وذلك لمن استرقته صفات البهائم والسباع ، ولم تظهر فيه صفات الملائكة التي لا يناسبها ولا يلذها إلا القرب من رب العالمين ، ولا يؤلمها إلا البعد والحجاب ، وكما لا يكون الذوق إلا في اللسان والسمع إلا في الآذان فلا تكون هذه الصفة إلا في القلب فمن لا قلب له ليس له هذا الحس كمن لا سمع له ، ولا بصر ليس له لذة الألحان وحسن الصور ، والألوان وليس لكل إنسان قلب ، ولو كان لما صح قوله تعالى : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب فجعل من لم يتذكر بالقرآن مفلسا من القلب ولست أعني بالقلب هذا الذي تكتنفه عظام الصدر بل أعني به السر الذي هو من عالم الأمر واللحم ، الذي هو من عالم الخلق عرشه والصدر كرسيه ، وسائر الأعضاء عالمه ومملكته ولله الخلق والأمر جميعا ولكن ذلك السر الذي قال الله تعالى فيه : قل الروح من أمر ربي هو الأمير والملك لأن بين عالم الأمر وعالم الخلق ترتيبا ، وعالم الأمر أمير على عالم الخلق وهو اللطيفة التي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد من عرفها فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه وعند ذلك يشم العبد مبادئ روائح المعنى المطوي تحت قوله صلى الله عليه وسلم : آدم على صورته ونظر بعين الرحمة إلى الحاملين له على ظاهر لفظه وإلى المتعسفين في طريق تأويله وإن كانت رحمته للحاملين على اللفظ أكثر من رحمته للمتعسفين في التأويل ; لأن الرحمة على قدر المصيبة ، ومصيبة أولئك أكثر ، وإن اشتركوا في مصيبة الحرمان من حقيقة الأمر فالحقيقة فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم وحكمته ، يختص بها من يشاء ، إن الله خلق ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ولنعد إلى الغرض فقد أرخينا الطول وطولنا النفس في أمر هو أعلى من علوم المعاملات التي نقصدها في هذا الكتاب فقد ظهر أن رتبة الهلاك ليس إلا للجهال المكذبين وشهادة ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تدخل تحت الحصر ، فلذلك لم نوردها .