الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوؤهم أو يعيبهم في الغيبة فيطلب ; كل من تعرض له بلسان ، أو آذى قلبه بفعل من أفعاله ، وليستحل واحدا واحدا منهم ، ومن مات أو غاب فقد فات أمره ، ولا يتدارك إلا بتكثير الحسنات ; لتؤخذ منه عوضا في القيامة وأما من وجده وأحله بطيب قلب منه فذلك كفارته ، وعليه أن يعرفه قدر جنايته وتعرضه له فالاستحلال ، المبهم لا يكفي وربما لو عرف ذلك وكثرة تعديه ، عليه لم تطب نفسه بالإحلال ، وادخر ذلك في القيامة ذخيرة يأخذها من حسناته ، أو يحمله من سيئاته ; فإن كان في جملة جنايته على الغير ما لو ذكره وعرفه لتأذى بمعرفته كزناه بجاريته أو أهله ، أو نسبته باللسان إلى عيب من خفايا عيوبه يعظم آذاه مهما شوفه به ، فقد انسد عليه طريق الاستحلال ، فليس له إلا أن يستحل منها ثم تبقى له مظلمة فليجبرها بالحسنات كما يجبر مظلمة الميت والغائب .

وأما ، الذكر والتعريف فهو سيئة جديدة يجب الاستحلال منها ، ومهما ذكر جنايته وعرفه المجني عليه ، فلم تسمح نفسه بالاستحلال بقيت المظلمة عليه فإن هذا حقه : فعليه أن يتلطف به ويسعى في مهماته وأغراضه ويظهر من حبه والشفقة عليه ما يستميل به قلبه ; فإن الإنسان عبد الإحسان وكل من نفر بسيئة مال بحسنة ، فإذا طاب قلبه بكثرة تودده وتلطفه سمحت نفسه بالإحلال فإن أبى إلا الإصرار فيكون تلطفه به واعتذاره إليه من جملة حسناته التي يمكن أن يجبر بها في القيامة جنايته ، وليكن قدر سعيه في فرحه وسرور قلبه بتودده وتلطفه كقدر سعيه في أذاه حتى إذا قاوم أحدهما الآخر أو زاد ، عليه أخذ ذلك منه عوضا في القيامة بحكم الله به عليه كمن أتلف في الدنيا مالا فجاء بمثله فامتنع من له المال من القبول ، وعن الإبراء فإن الحاكم يحكم عليه بالقبض منه شاء أم أبى فكذلك يحكم في صعيد القيامة أحكم الحاكمين وأعدل المقسطين وفي المتفق عليه من الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم : كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسا ، فهل له من توبة ? قال : لا ، فقتله ، فكمل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال له : إنه قتل مائة نفس ، فهل له من توبة ? قال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ، انطلق إلى الأرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله عز وجل ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك ، فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكما بينهم فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة وفي رواية فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها وفي رواية فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي ، وإلى هذه أن تقربي وقال : قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له ، فبهذا تعرف أنه لا خلاص إلا برجحان ميزان الحسنات ، ولو بمثقال ذرة ، فلا بد للتائب من تكثير الحسنات ، هذا حكم القصد المتعلق بالماضي .

وأما ، العزم المرتبط بالاستقبال فهو أن يعقد مع الله عقدا مؤكدا ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب ولا إلى أمثالها كالذي يعلم في مرضه أن الفاكهة تضره مثلا فيعزم عزما جزما أنه لا يتناول الفاكهة ما لم يزل مرضه فإن هذا العزم يتأكد في الحال ، وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة في ثاني الحال ، ولكن لا يكون تائبا ما لم يتأكد عزمه في الحال ، ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب في أول أمره إلا بالعزلة والصمت ، وقلة الأكل والنوم ، وإحراز قوت حلال ، فإن كان له مال موروث حلال أو كانت له حرفة يكتسب بها قدر الكفاية فليقتصر عليه .

فإن رأس المعاصي أكل الحرام فكيف يكون تائبا مع الإصرار عليه ولا يكتفي بالحلال وترك الشبهات من لا يقدر على ترك الشهوات في المأكولات والملبوسات وقد قال بعضهم : من صدق في ترك شهوة ، وجاهد نفسه لله سبع مرار لم يبتل بها وقال آخر : من تاب من ذنب واستقام سبع سنين لم يعد إليه أبدا ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالما أن يتعلم ما يجب عليه في المستقبل ، وما يحرم عليه حتى يمكنه الاستقامة وإن لم يؤثر العزلة لم تتم له الاستقامة المطلقة إلا أن يتوب عن بعض الذنوب كالذي يتوب عن الشرب والزنا ، والغصب مثلا وليست هذه توبة مطلقة .

وقد قال بعض الناس : إن هذه التوبة لا تصح وقال قائلون تصح ولفظ الصحة في هذا المقام مجمل ، بل نقول لمن قال : لا تصح إن عنيت به أن تركه بعض الذنوب لا يفيد أصلا بل ، وجوده كعدمه ، فما أعظم خطأك فإنا نعلم أن كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب وقلتها سبب لقلته ونقول لمن قال : تصح إن أردت به أن التوبة عن بعض الذنوب توجب قبولا يوصل إلى النجاة أو الفوز ، فهذا أيضا خطأ ، بل النجاة والفوز بترك الجميع ، هذا حكم الظاهر ولسنا نتكلم في خفايا أسرار عفو الله فإن قال : من ذهب إلى أنها لا تصح إني أردت به أن التوبة عبارة عن الندم وإنما يندم على السرقة مثلا لكونها معصية ، لا لكونها سرقة ، ويستحيل أن يندم عليها دون الزنا إن كان توجعه لأجل المعصية ; فإن العلة شاملة لهما إذ من يتوجع على قتل ولده بالسيف يتوجع على قتله بالسكين لأن توجعه بفوات محبوبه سواء كان بالسيف أو بالسكين فكذلك توجع العبد بفوات محبوبه ، وذلك بالمعصية سواء عصى بالسرقة أو الزنا ، فكيف يتوجع على البعض دون البعض ، فالندم حالة يوجبها العلم بكون المعصية مفوتة للمحبوب من حيث إنها معصية ، فلا يتصور أن يكون على بعض المعاصي دون البعض ، ولو جاز هذا لجاز أن يتوب من شرب الخمر من أحد الدنين دون الآخر ، فإن استحال ذلك من حيث إن المعصية في الخمرين واحد ، وإنما الدنان ظروف فكذلك أعيان المعاصي آلات للمعصية والمعصية من حيث مخالفة الأمر واحدة فإذن ، معنى عدم الصحة أن الله تعالى وعد التائبين رتبة ، وتلك الرتبة لا تنال إلا بالندم ، ولا يتصور الندم على بعض المتماثلات ، فهو كالملك المرتب على الإيجاب والقبول ، فإنه إذا لم يتم الإيجاب والقبول نقول : إن العقد لا يصح ، أي لم : تترتب عليه الثمرة ، وهو الملك وتحقيق هذا أن ثمرة مجرد الترك أن ينقطع عنه عقاب ما تركه ، وثمرة الندم تكفير ما سبق ، فترك السرقة لا يكفر السرقة ، بل الندم عليها ، ولا يتصور الندم إلا لكونها معصية ، وذلك يعم جميع المعاصي وهو كلام مفهوم واقع يستنطق المنصف بتفصيل به ينكشف الغطاء .

فنقول : التوبة عن بعض الذنوب لا تخلو إما أن تكون عن الكبائر دون الصغائر ، أو عن الصغائر دون الكبائر ، أو عن كبيرة دون كبيرة ، أما التوبة عن الكبائر دون الصغائر فأمر ممكن ; لأنه يعلم أن الكبائر أعظم عند الله ، وأجلب لسخط الله ومقته ، والصغائر أقرب إلى تطرق العفو إليها فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويتندم عليه كالذي يجني على أهل الملك وحرمه ويجني ، على دابته فيكون خائفا من الجناية على الأهل مستحقرا للجناية على الدابة ، والندم بحسب استعظام الذنب ، واعتقاد كونه مبعدا عن الله تعالى ، وهذا ممكن وجوده في الشرع فقد كثر التائبون في الأعصار الخالية ولم يكن أحد منهم معصوما ، فلا تستدعي التوبة العصمة ، والطبيب قد يحذر المريض العسل تحذيرا شديدا ، ويحذره السكر تحذيرا أخف منه على وجه يشعر معه أنه ربما لا يظهر ضرر السكر أصلا فيتوب المريض بقوله عن العسل دون السكر فهذا غير محال وجوده ، وإن أكلهما جميعا بحكم شهوته ندم على أكل العسل دون السكر .

التالي السابق


(وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوءهم) أي: يحزنهم (أو يعيبهم في الغيبة; فليطلب كل من تعرض له بلسانه، أو آذى قلبه بفعل من أفعاله، وليستحل واحدا واحدا منهم، ومن مات) منهم (أو غاب) غيبة طويلة (فقد فات أمره، ولا يتدارك إلا تكثير الحسنات; لتؤخذ منه عوضا في القيامة) عند المحاسبة، (وأما من وجده وأحله بطيب) قلب (منه وانشراح) صدر (فذلك [ ص: 583 ] كفارته، وعليه يعرفه قدر جنايته وتعرضه له، والاستحلال المبهم لا يكفي) كما تقدم بيانه في كتاب ذم الغيبة، (وربما لو عرف ذلك، وتعديه عليه) ، وفي نسخة: وكثرة تعديه عليه (لم تطلب نفسه بالإحلال، وادخر ذلك في القيامة ذخيرة يأخذها من حسناته، أو يحمله من سيئاته; فإن كان في جملة جنايته على الغير ما لو ذكره وعرفه لتأذى بمعرفته كزناه بجاريته أو) جارية (أهله، أو نسبته باللسان إلى عيب من خفايا عيوبه) بحيث يعظم أذاه مهما شوفه (به، فقد أفسد عليه طريق الاستحلال، فليس له إلا أن يستحل منهما) بلا تعيين جناية (ثم تبقى له مظلمة فليجبرها بالحسنات كما يجبر مظلمة الميت والغائب، فأما الذكر والتعريف فهو سيئة جديدة يجب الاستحلال منها، ومهما ذكر جناية وعرفه المجني عليه، فلم تسمح نفسه بالاستحلال بقيت المظلمة عليه) في ذمته; (فإن هذا حقه: فعليه أن يتلطف به) في القول، (ويسعى في) قضاء (مهماته وأغراضه) الدنيوية، (ويظهر من حبه له والشفقة عليه ما يستميل به قلبه; فإن الإنسان عبد الإحسان) كما هو المشهور على الألسنة، وفي معناه: قولهم: الإنسان الإحسان أي: يتقيد عند الإحسان فيحب المحسن إليه بطبعه، ويميل إليه بقلبه، وفي كلام علي رضي الله عنه: "أحسن إلى من شئت تكن أميره" أي: يكون هو بمنزلة الأسير لك، وأنت بمنزلة الأمير عليه، (وكل من نفر) عنك (بسيئة مال) إليك (بحسنة، فإذا طاب قلبه بكثرة تودده وتلطفه سمحت نفسه بالإحلال) لا محالة; (فإن أبى إلا الإصرار) على عدم السماح (فيكون تلطفه به واعتذاره إليه من جملة حسناته التي يمكن أن يجبر بها في القيامة جنايته، وليكن قدر فرحه وسرور قلبه بتودده وتلطفه كقدر سعيه في أذاه حتى إذا قاوم أحدهما الآخر، وزاد عليه أخذ ذلك منه عوضا في القيامة بحكم الله به عليه) ، وهذا (كمن أتلف في الدنيا مالا) لآخر (فجاء) المتلف (بمثله فامتنع من له المال عن القبول، وعن الإبراء فإن الحاكم يحكم عليه بالقبض منه شاء أم أبى) رضي أم كره، (وكذلك يحكم في صعيد القيامة أحكم الحاكمين وأعدل المقسطين) جل جلاله، (وفي المتفق عليه من الصحيحين) أي: فيما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم (عن أبي سعيد الخدري) رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض) أي: أكثرهم علما (فدل على راهب فأتاه فقال: إنه) يعني نفسه (قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ قال: لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض) أي: أكثرهم علما ليذهب إليه فيستفتيه عن حاله (فدل على رجل عالم فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟) أي: هل تصح توبته، أو تقبل توبته (قال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا) ، وسماها له; (فإن بها أناسا يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله معهم، ولا تنطلق إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت) ، ولفظ مسلم: أتاه الموت (فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكما بينهم) ، ولفظ مسلم فجعلوه بينهم (فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى) أي: أقرب (فهو له [ ص: 584 ] فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته) بها (ملائكة الرحمة) هذا لفظ مسلم، ورواه كذلك ابن حبان في صحيحه إلا أنه قال: ومن يحول بينك وبين التوبة، ائت أرض كذا وكذا، وفيه: ولا ترجع إلى أرضك، والباقي سواء، (وفي رواية) لمسلم أن رجلا قتل تسعة وتسعين نفسا، فجعل يسأل: هل له من توبة. فأتى راهبا فسأله فقال: ليس لك توبة، فقتل الراهب. ثم جعل يسأل، ثم خرج من قرية إلى قرية فيها قوم صالحون، فلما كان في بعض الطريق أدركه الموت فناء بصدره، ثم مات فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، (فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها) ، ورواه البخاري نحوه، (وفي رواية) : كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبا فسأله، فقال: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها، فاختصمت به ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي) هكذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وإلى هذه أن تباعدي، (وقال: قيسوا ما بينهما فوجدوه) ، ولفظ الشيخين فوجداه (إلى هذه أقرب بشبر فغفر له، فبهذا يعرف أنه لا خلاص) هنالك (إلا برجحان ميزان الحسنات، ولو بمثقال ذرة، فلا بد للتائب من تكثير الحسنات، هذا حكم القصد المتعلق بالماضي، فأما العزم المرتبط بالاستقبال فهو أن يعقد مع الله عقدا مؤكدا ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب) بعينها، (ولا إلى أمثالها) ، وعلامة صحته أن يحب أن يقذف في النار ولا يرجع فيما عنه خرج (كالذي يعلم في مرضه أن الفاكهة) الرطبة (تضره مثلا) إذا تناولها لسرعة استحالتها في المعدة (فيعزم عزما جزما أنه لا يتناول الفاكهة ما لم يزل مرضه) المانع من صحة معدته; (فإن هذا العزم يتأكد في الحال، وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة في ثاني الحال، ولكن لا يكون تائبا ما لم يتأكد عزمه في الحال، ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب في أول أمره) ، وفي نسخة: أول مرة (إلا بالعزلة) عن الناس، (والصمت، وقلة الأكل والنوم، وإحراز قوت حلال، فإن كان له مال موروث حلال) أي: ورثه من أحد موروثيه، (أو كانت له حرفة يكتسب بها قدر الكفاية فليقتصر عليه; فإن رأس المعاصي أكل الحرام فكيف يكون تائبا مع الإصرار عليه) أي: على الحرام، (ولا يكتفي بالحلال وترك الشبهات ما لم يقدر) ، وفي نسخة: من لم يقدر (على ترك الشهوات في المأكولات والملبوسات) ، فإن التوسع فيها غالبا يستدعي إلى تناول ما لا يحل له; فإن الحلال ضيق، (قال بعضهم: من صدق في ترك شهوة، وجاهد نفسه لله سبع مرات لم يبتل بها) نقله صاحب القوت، (وقال آخر: من تاب من ذنب واستقام عليه) ، وفي نسخة: وأقام عليه، أي: على توبته من ذلك الذنب (سبع سنين لم يعد إليه أبدا) نقله صاحب القوت، (ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالما أن يتعلم ما يجب عليه في المستقبل، وما يحرم عليه حتى يمكنه الاستقامة) على التوبة، (وإن لم يؤثر العزلة لم تتم له الاستقامة المطلقة إلا أن يتوب عن بعض الذنوب) فقط (كالذي يتوب عن الشرب) أي: شرب المسكر، (والزنا، واللواط، والغصب مثلا) ، ولا يتوب عن غيرها، (وليست هذه توبة مطلقة، وقد قال بعض الناس: إن هذه التوبة لا تصح) ، وهو المحكي عن المعتزلة، وإلى هذا يشير قول ابن المبارك: إن من شرط التوبة الخروج عن مظالم العباد; فإن الظاهر أنه إن أراد الخروج عن مظالم العباد مطلقا، وإن كان الصحيح خلافه أنه في ذلك الذنب الذي تاب منه، (وقال قائلون) : إنها (تصح) ، وهو المحكي عن أهل السنة والجماعة، (ولفظ الصحة في هذا المقام مجمل، بل نقول لمن قال: لا تصح) عن ذنب دون ذنب (إن [ ص: 585 ] عنيت به إن تركه بعض الذنوب لا يفيد أصلا، بل وجوده كعدمه، فما أعظم خطأك) في هذا (فإنا نعلم أن كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب) ، وفي نسخة: العذاب (وقلتها سبب لقلته) ، ولا يتصور القلة والكثرة فيها، إلا بسبب التوبة، (ونقول لمن قال: تصح) التوبة من ذنب دون ذنب (إن أردت به أن التوبة عن بعض الذنوب توجب قبولا يوصل إلى النجاة أو الفوز، فهذا أيضا خطأ، بل النجاة والفوز بترك الجميع، هذا حكم الظاهر) المطابق للقواعد، (ولسنا نتكلم في خفايا أسرار عفو) الله تعالى; (فإن قال: من ذهب إلى أنه لا تصح أني أردت به أن التوبة عبارة عن الندم) إذ هو معظم أركانها، (وإنما يندم) العبد (على السرقة مثلا لكونها معصية، لا لكونها سرقة، ويستحيل أن يندم عليها دون الزنا إن كان توجعه لأجل المعصية; فإن العلة شاملة لهما) أي لكل من السرقة والزنا; (إذ من يتوجع على قتل ولده بالسيف يتوجع على قتله بالسكين) أو غيرهما (لأن توجعه بفوات محبوبه سواء كان بالسيف أو بالسكين) ، أو غيرهما (فكذلك توجع العبد بفوات محبوبه، وذلك بالمعصية سواء عصى بالسرقة أو بالزنا، فكيف يتوجع على البعض دون البعض، فالندم حالة يوجبها العلم بكون المعصية مفوتة للمحبوب من حيث إنها معصية، فلا يتصور أن يكون على بعض المعاصي دون بعض، ولو جاز هذا لجاز أن يتوب من شرب الخمر من أحد الدنين دون الآخر، فإن استحلال ذلك من حيث إن المعصية في الخمرين واحدة، وإنما الدنان ظروف) وآلات، (فكذلك أعيان المعاصي) كالقتل والزنا والسرقة (آلات للمعصية) وظروف لها، (والمعصية من حيث مخالفة الأمر واحدة، فإذا معنى الصحة أن الله وعد التائبين رتبة، وتلك لا تنال إلا بالندم، ولا يتصور الندم على بعض المتماثلات دون بعض، فهو كالملك المرتب على الإيجاب والقبول، فإنه إذا لم يتم الإيجاب والقبول يقال: إن العقد لا يصح، أي: لا تترتب عليه الثمرة، وهو الملك، ويحقق هذا أن ثمرة مجرد الترك أن ينقطع عنه عقاب ما تركه، وثمرة الندم تكفر ما سبق، فترك السرقة لا يكفر السرقة، بل الندم عليها يكفرها، ولا يتصور الندم إلا لكونها معصية، وذلك يعم جميع المعاصي، هذا تقرير كلام المانعين من الصحة، وبيان علة المنع، وهذا الكلام مفهوم يستنطق المنصف بتفصيل به ينكشف الغطاء) عن وجه الحق، (فنقول: إن التوبة عن بعض الذنوب لا تخلو إما أن تكون عن الكبائر دون الصغائر، أو عن الصغائر دون الكبائر، أو عن كبيرة دون كبيرة، أما التوبة عن الكبائر دون الصغائر فممكن; لأنه يعلم أن الكبائر أعظم عند الله، وأجلب لسخط الله ومقته، والصغائر أقرب إلى تطرق العفو إليها فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويتندم عليه كالذي يجني على أهل الملك وحرمه، ويحبي على دابته فيكون خائفا من الجناية على الأهل مستحقرا للجناية على الدابة، والندم بحسب استعظام الذنب، واعتقاد كونه مبعدا عن الله تعالى، وهذا ممكن وجوده في الشرع فقد كثر [ ص: 586 ] التائبون في الأعصار الخالية) أي الماضية، (ولم يكن واحد منهم معصوما، فلا تستدعي التوبة العصمة، والطبيب قد يحذر المريض) بتناول (العسل تحذيرا شديدا، ويحذره) تناول (السكر تحذيرا أخف منه على وجه يشعر معه أنه ربما لا يظهر ضرر السكر أصلا فيتوب المريض بقوله عن العسل دون السكر فهذا غير محال وجوده، وإن أكلهما جميعا بحكم الشهوة ندم على أكل العسل دون السكر) .




الخدمات العلمية