الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بل نقول : شرط دوام التوبة أن يكون كثير الفكر في النعيم في الآخرة لتزيد رغبته ولكن إن كان شابا فلا ينبغي أن يطيل فكره في كل ما له نظير في الدنيا كالحور والقصور ، فإن ذلك الفكر ربما يحرك رغبته فيطلب العاجلة ولا يرضى بالآجلة بل ينبغي أن يتفكر في لذة النظر إلى وجه الله تعالى فقط ، فذلك لا نظير له في الدنيا .

فكذلك تذكر الذنب قد يكون محركا للشهوة فالمبتدئ ، أيضا قد يستضر به ، فيكون النسيان أفضل له عند ذلك ولا يصدنك عن التصديق بهذا التحقيق ما يحكى لك من بكاء داود ونياحته عليه السلام فإن قياسك نفسك على الأنبياء قياس في غاية الاعوجاج ; لأنهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بأممهم ; فإنهم ما بعثوا إلا لإرشادهم فعليهم التلبس بما تنتفع أممهم بمشاهدته ، وإن كان ذلك نازلا عن ذروة مقامهم فلقد كان في الشيوخ من لا يشير على مريده بنوع رياضة إلا ويخوض معه فيها ، وقد كان مستغنيا عنها ، لفراغه عن المجاهدة وتأديب النفس تسهيلا للأمر على المريد ; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : أما إني لا أنسى ولكني ، أنسى لأشرع وفي لفظ : إنما أسهو لأسن ، ولا تعجب من هذا ; فإن الأمم في كنف شفقة الأنبياء كالصبيان في كنف شفقة الآباء ، وكالمواشي في كنف الرعاة .

أما ترى الأب إذا أراد أن يستنطق ولده الصبي كيف ينزل إلى درجة نطق الصبي ، كما قال صلى الله عليه وسلم : للحسن كخ كخ لما أخذ تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه وما كانت فصاحته تقصر عن أن يقول : ارم هذه التمرة فإنها حرام ، ولكنه لما علم أنه لا يفهم منطقه ترك الفصاحة ، ونزل إلى لكنته بل الذي يعلم شاة أو طائرا يصوت به رغاء أو صفيرا تشبها بالبهيمة والطائر تلطفا في تعليمه فإياك أن تغفل عن أمثال هذه الدقائق إنها مزلة أقدام العارفين ، فضلا عن الغافلين نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه .

.

التالي السابق


(بل نقول: شرط التوبة) ، وفي نسخة: دوام التوبة (أن يكون كثير الفكر في النعيم) الذي أعده الله (في الآخرة لتزيد رغبته) في سلوكه، (ولكن إن كان شابا فينبغي أن لا يطيل فكره في كل ما له نظير في الدنيا كالحور والقصور، فإن ذلك الفكر ربما يحرك رغبته فيطلب العاجلة ولا يرضى بالآجلة فينبغي أن يتفكر في لذة النظر إلى وجه الله تعالى فقط، فذلك لا نظير له في الدنيا، فكذلك تذكر الذنب قد يكون محركا للشهوات، فالمبتدئ أيضا قد يستضر به، فيكون النسيان أفضل له عند ذلك) ، وقال صاحب القوت: اعلم أنه لا يؤمن على ضعيف اليقين تقوي النفس عند تذكرة الذنوب; فإن نظر القلب إليها بشهوة أو ميل النفس إليها بحلاوة، فيكون ذلك سبب فتنته، فيفسد من حيث صلح، كما لا يؤمن على معتاد خطيئة بالنظر إلى سببها حركة النفس إليها، وإن كان الأفضل الاتفاق معها ما لم يكن الاتفاق معصية; لأجل مجاهدة النفس بالصبر عنها إلا أن ذلك غرور، وفيه خطر، فترك الاجتماع وترك الأسباب حينئذ أسلم، وما كان أسلم للمريد فهو أفضل، وفي نسيان الذنوب الذكر لما يستقبل، والانكماش مع ما يفوت من الوقت خوف فوت ثان، وقد كان بعض العارفين يكره للمريد أن يكون وسواسه الجنة أو تذكر ما فيها من النعيم، واللباس والأزواج، ويستحب للمريد أن يكون وسواسه ذكر الله تعالى وخواطره وهمته متعلقة بالله تعالى لا بسواه، قال: لأن المريد حديث عهد بالتوبة غير معتاد لطول الاستقامة والعصمة، فإذا ذكر نعيم الجنة لم آمن عليه لضعف قلبه أن يشتهي مثله مما يشاهد في الدنيا من اللباس وأطيب الطعام والنساء; لأن هذا حظ عاجل، وذلك آجل فتطلب نفسه مثل ما ذكر من نعيم الآخرة معجلا في الدنيا، قال: فإذا كان همه الله تعالى كان أبعد له من زينة الدنيا وشهواتها، ولم يجسر العدو بتمثيل ذلك له من العاجل إلا أن يقوى يقينه وشغل عادته، وقدوم عصمته... والمعنى لقائله، (ولا يصدنك عن التصديق بهذا التحقيق ما يحكى لك من بكاء داود) عليه السلام، (ونياحته) على ذنبه; (فإن قياسك نفسك على الأنبياء) عليهم السلام (قياس في غاية الاعوجاج; لأنهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بأممهم; فإنهم ما بعثوا إلا لإرشادهم) ، وهدايتهم، (فعليهم التلبس بما ينتفع أمتهم بمشاهدته، وإن كان ذلك نازلا عن ذروة مقامهم) ، ولفظ القوت: وقد يعترض المريد بقصة داود عليه السلام من تذكره ونوحه على خطيئته; فإن الأنبياء لا يقاس عليهم لمجاوزتهم حدود من دونهم، وقد يقلبون في أحوال المريدين، ويسلك بهم سبل المتعلمين; وذلك لأجل الأمة ليكون طريقا للأئمة اهـ. (فلقد كان في الشيوخ من لا يشير على مريده بنوع رياضة إلا ويخوض معه فيها، وقد كان مستغنيا عنها، لفراغه عن المجاهدة وتأديب النفس) ورياضتها، (ولكن تسهيلا للأمر على المريد; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: أما إني لا أنسى، ولكن أنسى لأشرع) قال العراقي: ذكره مالك في الموطأ بلاغا بغير إسناد، وقال ابن عبد البر: لا يوجد إلا في الموطأ مرسلا للإسناد له، وكذا قال حمزة الكناني: إنه لم يرد من غير طريق مالك، وقال أبو الطاهر الأنماطي، وقد طال بحثي عنه وسؤالي عنه الأئمة والحفاظ، فلم أظفر به ولا سمعت عن أحد أنه ظفر به، وادعى بعض طلبة الحديث أنه وقع له مسندا، (وفي لفظ: إنما أسهو لأسن، ولا تعجب من هذا; فإن الأمم [ ص: 593 ] في كنف شفقة الأنبياء كالصبيان في كنف شفقة الآباء، وكالمواشي في كنف الرعاة) ، وقد روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة: "إنما أنا لكم مثل الوالد للولد أعلمكم الحديث"، وقد تقدم في كتاب سر الطهارة: (أما ترى الأب إذا أراد أن يستنطق ولده الصغير كيف ينزل إلى درجة نطق الصبي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: للحسن) بن علي رضي الله عنهما: (كخ كخ) بفتح الكاف وكسرها، وسكون المعجمة مثقلا ومخففا، ويكسر منونا وغير منون: كلمة ردع الطفل في تناول شيء، وهذا قاله (لما أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه) فزجر به، (وما كانت فصاحته) صلى الله عليه وسلم (تقصر عن أن يقوله له: ارم هذه التمرة فإنها حرام، ولكنه لما علم أنه لا يفهم منطقه ترك الفصاحة، ونزل إلى لكنته) ، وكان المراد بذلك ما كانت فصاحته تقصر عن الاكتفاء بكلامه الفصيح الظاهر، وهذا كان تمام الحديث في المتفق عليه عن أبي هريرة: ارم بها، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة، وقد تقدم في كتاب الحلال والحرام، فقد جمع صلى الله عليه وسلم بين اللكنة والفصاحة، (بل الذي يعلم شاة أو طائرا يصوت به رغاء وصفيرا تشبيها بالبهيمة والطائر تلطفا في تعليمه) ، وروى ابن عساكر من حديث معاوية، وقال: غريب جدا، من كان له صبي فليتصاب له، وإذا عرفت ذلك فاعلم أن قولهم شيئان عجيبان هما أبرد من يخ شيخ يتصابى وصبي يتشيخ، ليس على إطلاقه، (فإياك أن تغفل عن أمثال هذه الدقائق فإنها مذلة أقدام العارفين، فضلا عن الغافلين) ، وأما كلام رويم لما سئل عن حقيقة التوبة، وقد سبق ذكره نقلا عن القشيري، وسبق الوعد بأنا نتكلم عليه، فاعلم أن المقصود من التوبة تقوى الله، وهو خوفه وخشيته والقيام بأمره واجتناب نهيه، فيعمل بطاعته على نور من الله، لا يريد بذلك غير الطاعة; فإن الطاعة والتوبة عز ظاهرا وباطنا، فلا يكون مقصوده العزة; فمن تاب لأجله فتوبته مدخولة .

وسائر التوبة ثلاثة أشياء: هذا أحدها، والثاني نسيان الجناية، والثالث التوبة من رؤية اليوم; فإن رأى منة الإيمان والإسلام من نفسه، وغفل عن منة الله عليه فليتب من هذه الرؤية، ولكن هذه الرؤية ليست التوبة ولا حيزها ولا شرطها، بل جناية أخرى حصلت له بعد التوبة، فيتوب من هذه الجناية، كما تاب من الجناية الأولى، فما تاب إلا من ذنب أولا وآخرا، أو المراد التوبة عن نقصان اليوم وعدم توفية حقه. ووجه ثالث لطيف، وهو أنه من حصل مقام الأنس بالله وصفاء وقته مع الله، بحيث يكون إقباله على الله، واشتغاله بذكر آلائه وأسمائه وصفاته أنفع شيء له حتى إذا نزل عن هذه الحال اشتغل بالتوبة من جناية سالفة قد تاب منها، وسار مع الجناية، واشتغل بها عن الله تعالى، فهذا نقص ينبغي أن يتوب إلى الله منه، وهو توبة من هذه التوبة; لأنه يزول من الصفاء إلى الجفاء، وهذا هو الذي لاحظه الجنيد حين خاطبه شيخه السري; فالتوبة من التوبة إنما تعقل عن أحد هذه الوجوه الثلاثة، والله أعلم .




الخدمات العلمية