الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الطبقة الثالثة: أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة ، ثم تغلبه الشهوات في بعض الذنوب فيقدم عليها عن صدق وقصد شهوة لعجزه عن قهر الشهوة ، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات ، وتارك جملة من الذنوب مع القدرة والشهوة ، وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان ، وهو يود لو أقدره الله تعالى على قمعها وكفاه شرها هذا ، أمنيته في حال قضاء الشهوة عند الفراغ يتندم ويقول : ليتني لم أفعله ، وسأتوب عنه ، وأجاهد نفسي في قهرها ، لكنه تسول نفسه ويسوف توبته مرة بعد أخرى ، ويوما بعد يوم فهذه النفس هي التي تسمى النفس المسولة وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فأمره من حيث مواظبته على الطاعات وكراهته لما تعاطاه مرجو فعسى الله أن يتوب عليه وعاقبته مخطرة من حيث تسويفه وتأخيره فربما يختطف قبل التوبة ، ويقع أمره في المشيئة فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتن عليه بالتوبة التحق بالسابقين وإن غلبته شقوته وقهرته شهوته فيخشى أن يحق عليه في الخاتمة ما سبق عليه من القول في الأزل لأنه مهما تعذر على المتفقه مثلا الاحتراز عن شواغل التعلم دل تعذره على أنه سبق له في الأزل أن يكون من الجاهلين فيضعف الرجاء في حقه ، وإذا يسرت له أسباب المواظبة على التحصيل دل على أنه سبق له في الأزل أن يكون من جملة العالمين ، فكذلك ارتباط درجات الآخرة ودركاتها بالحسنات والسيئات بحكم تقدير مسبب الأسباب كارتباط المرض والصحة بتناول الأغذية والأدوية ، وارتباط حصول فقه النفس الذي به تستحق المناصب العلية في الدنيا بترك الكسل ، والمواظبة على تفقيه النفس فكما لا يصلح لمنصب الرياسة والقضاء والتقدم بالعلم إلا نفس صارت فقيهة بطول التفقيه ، فلا يصلح لملك الآخرة ونعيمها ولا القرب من رب العالمين إلا قلب سليم صار طاهرا بطول التزكية والتطهير هكذا سبق في الأزل بتدبير رب الأرباب ، ولذلك قال تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها فمهما وقع العبد في ذنب فصار الذنب نقدا والتوبة نسيئة كان هذا من علامات الخذلان قال صلى الله عليه وسلم : إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة ، حتى يقول الناس إنه من أهلها ، ولا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها فإذن الخوف من الخاتمة قبل التوبة ، وكل نفس فهو خاتمة ما قبله ; إذ يمكن أن يكون الموت متصلا به فليراقب الأنفاس وإلا وقع في المحذور ودامت الحسرات حين لا ينفع التحسر .

التالي السابق


(الطبقة الثالثة) وهي تلي من هذه الثانية في الحال (أن يتوب) عن الذنوب، (ويستمر بالاستقامة) على توبته (مدة، ثم تغلبه الشهوة) ، وفي نسخة: شهوته (في بعض الذنوب فيقدم عليها عن صدق) عزم، (وقصد شهوة) فيذنب ثم يحزن عليه بقصده له وسعيه فيه، وإيثاره إياه (لعجزه عن قهر الشهوة، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات، وتارك جملة من الذنوب مع القدرة والشهوة، وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان، وهو يود أن لو أقدره الله تعالى) أي: جعله عليها مليا قادرا (على قمعها) ، وكفها، (وكفاه شرها، هذه أمنيته) ، وتمام رجائه (في حال قضاء الشهوة [ ص: 597 ] وعند الفراغ) منه (يتندم) ويتحسر (ويقول: ليتني لم أفعله، وسأتوب منه، وأجاهد نفسي في قهرها، لكنه تسول نفسه ويسوف توبته مرة بعد أخرى، ويوما بعد يوم) ، ويحدث نفسه بالاستقامة، ويحب منازل التوابين، ويرتاح قلبه إلى مقامات الصديقين، ولم يأت حينه، ولا ظهر مقامه; لأن الهوى يحركه، والعادة تجذبه، والغفلة تغمره إلا أنه يندم خلال الذنوب، ويعاود هذا المتقدم المعتاد (فهذه النفس هي التي تسمى المسولة) ، وإليها الإشارة بقوله تعالى: بل سولت لكم أنفسكم وتوبة هذا فوت من وقت إلى وقت (وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ) عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم قيل: خلطوا عملا صالحا هو الاعتراف بالذنوب والتوبة السابقة، وآخر سيئا ما سلف من الغفلة والجهالة، (فأمره من حيث مواظبته على الطاعات وكراهته لما تعاطاه) من المعاصي والمخالفات (مرجو) له الاستقامة لمحاسن عمله، وتكفيرها لسالف سيئاته، (فعسى الله أن يتوب عليه) فيستقيم فيلحق بالسابقين، (وعاقبته مخطرة من حيث تسويفه وتأخيره) فيخاف عليه الانقلاب لأجل ذلك، ومن حيث مداومة خطاياه، (فربما يختطف قبل التوبة، ويقع أمره في المشيئة) ، وإنما كان مثل هذا مخطرا; لأن خفايا المكر والألطاف دقيق، لا اطلاع لأحد عليه، فهذا بين حالين; (فإن تداركه الله بفضله) بأن نظر إليه بعين رحمته (وجبر كسره) وأغنى فقره، (وامتن عليه بالتوبة التحق بالسابقين) والمقربين لأنه قد سلك طريقهم (وإن غلبته شهوته وقهرته شهوته) وهي وصف النفس (فيخشى أن يحق عليه في الخاتمة ما سبق عليه من القول في الأزل) بأن يكون من أهل النار، فلو أنه تاب سبعين توبة لم ينقذه من النار; (لأنه مهما تعذر على المتفقة مثلا الاحتراز عن شواغل التعلم دل تعذره على أنه سبق له في الأزل أن يكون من الجاهلين فيضعف الرجاء في حقه، وإذا يسرت له أسباب المواظبة على التحصيل) والتعلم (دل على أنه سبق له في الأزل أن يكون من جملة العالمين، فكذلك ارتباط درجات الآخرة ودركاتها بالحسنات والسيئات بحكم تقدير مسبب الأسباب) جل جلاله، (كارتباط المرض والصحة بتناول الأغذية والأدوية، وارتباط حصول فقه النفس الذي به تستحق المناصب العلية في الدنيا بترك الكسل، والمواظبة على تفقيه النفس) ليلا ونهارا، (فكما لا يصح لمنصب الرياسة والقضاء والتقدم بالعلم إلا نفس صارت فقيهة بطول التفقه، فلا يصح لملك الآخرة ونعيمها ولا للقرب من رب العالمين إلا قلب سليم) من الغش (صار طاهرا بطول التزكية والتطهير) عن الأدناس المعنوية (هكذا سبق في الأزل تدبير رب الأرباب، ولذلك قال تعالى: ونفس وما سواها ) أي: ومن سواها، وتسويتها بورود الروح الإنساني عليها، واقتطاعها من جنس أرواح الحيوانات، (فألهمها فجورها وتقواها) ، والمراد بإلهامها إفهامها، وتعريف حالهما، والتمكن من الإتيان بهما، ( قد أفلح من زكاها ) أي: أنماها بالعلم والعمل، ( وقد خاب من دساها ) أي: نقصها وأخفاها بالجهالة والفسوق، (فمهما وقع العبد في ذنب فصار الذنب نقدا) حاضرا، (والتوبة نسيئة كان هذا من علامات الخذلان) والشقاوة; (قال صلى الله عليه وسلم: إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة، حتى يقول الناس إنه من أهلها، ولا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر) ، ثم يدركه الشقاء، وفي لفظ آخر: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) ، وقد دخلت التعريات في صالح أعماله من الحسنات، ثم أحبطها عنه في جملة عمله بسبق الكتاب بالشقاوة; فأما من لم يسبق له سوء الخاتمة، ووهبت له التوبة النصوح لم يدركه الشقاء، قال العراقي: وروى مسلم من حديث أبي هريرة: "إن الرجل ليعمل الزمن الطويل [ ص: 598 ] بعمل أهل الجنة" الحديث، ولأحمد من رواية شهر بن حوشب عن أبي هريرة: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة"، وشهر مختلف فيه، انتهى .

قلت: وتمام حديث أبي هريرة عند مسلم: "ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة"، وقد رواه أحمد أيضا، وروى الشيخان من حديث سهل بن سعد: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار" الحديث. زاد البخاري: "وإنما الأعمال بخواتمها".

وروى الطبراني وأبو نعيم من حديث أكثم بن أبي الجون: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، وإنه لمن أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة، تدركه الشقاوة أو السعادة عند خروج نفسه فيختم له بها.

وأما حديث أبي هريرة من رواية شهر بن حوشب الذي أخرجه أحمد بلفظه: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصي خان في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة،وهكذا رواه أيضا ابن ماجه.

وروى أحمد أيضا من حديث عائشة: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، وإنه لمكتوب في الكتاب من أهل النار، فإذا كان قبل موته بحول فيعمل بعمل أهل النار. الحديث، (فإذا الخوف من الخاتمة قبل التوبة، وكل نفس) من الأنفاس (فهو خاتمة ما قبله; إذ يمكن أن يكون الموت متصلا به فيراقب الأنفاس) ، ويحافظ عليها، (وإلا وقع في المحذور) أي: الأمر الذي يحذر منه، (ودامت الحسرات حين لا ينفع التحسر) .




الخدمات العلمية