الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الأصل الأول :

العلم بأن كل حادث في العالم فهو فعله وخلقه واختراعه لا خالق له سواه ، ولا محدث له إلا إياه .

، خلق الخلق وصنعهم وأوجد قدرتهم وحركتهم فجميع أفعال عباده مخلوقة له ، ومتعلقة بقدرته تصديقا له في قوله تعالى الله خالق كل شيء وفي قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون .

التالي السابق


(الأصل الأول: العلم بأن) الله تعالى لا خالق سواه، وأن (كل حادث في العالم) جوهر أو عرض، على اختلاف أنواعه، كحركة شعرة، وإن دقت، ودخل فيها كل قدرة لكل حيوان عاقل، أو غيره، وكل فعل اضطراري كحركة المرتعش، وحركة العروق الضوارب بالبدن، أو اختياري كأفعال الحيوانات المقصودة لهم، (فهو فعله وخلقه واختراعه) وإبداعه وإنشاؤه، (لا خالق له سواه، ولا محدث له إلاهو، خلق الخلق وصنعهم) بضم الصاد المهملة، وسكون النون، وفتح العين، معطوف على ما قبله، أي: وخلق صنعهم، وفي نسخة: وصنعتهم، وفيه الإشارة إلى الحديث الذي أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث حذيفة رضي الله عنه رفعه، "أن الله صانع كل صانع وصنعته". أو أنه بفتح الصاد والنون، على أنه فعل ماض معطوف على خلق، وهو أيضا صحيح، ولكن الأولى أوفق .

والخلق والصنع والإنشاء والإبداع والاختراع والفعل قيل: مترادفات. والحق أنها متغايرات، وقد سبقت الإشارة إليه، (وأوجد قدرتهم وحركتهم) ، والمراد بها ما يعم الحركة الأينية وغيرها، (فجميع أفعال عبيده) إذا (مخلوقة له، ومتعلقة بقدرته) ، وهذا ما اتفق عليه السلف قبل ظهور البدع، وقال المعتزلة: المحدثون مخترعون أفعالهم بقدرهم وخالقوها، والله تعالى غير موصوف بالاقتدار على أفعال العباد، وقد ألزمهم المصنف بدلائل نقلية وعقلية، وقدم النقلية لشرفها، وإليها أشار بقوله: (تصديقا له) ، أي: للمطلوب السابق الذي هو الخالق الله، ولا خالق سواه، وأن الحوادث كلها بقدرته (في قوله تعالى:) ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو ( خالق كل شيء ) ووجه الدلالة أن الآية خرجت مخرج المدح، فلا يصح أن يكون المخلوق بعض الأشياء، إذ لو كان المخلوق بعض الأشياء، كما يزعم الخصم، لما كانت مدحا; إذ عنده كثير من الحيوانات، يخلق البعض، فلا يكون ثم اختصاص، فلا مدح، فيتعين الجميع، وإذا تعين الجميع بطل أن يكون خلق لغير الله تعالى، وذلك هو المطلوب، ومثل ذلك قوله تعالى: أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ، ووجه الدلالة كما قبلها مع ما فيها من زيادة الإنكار من مطابقتها على عين دعوى المخالف; إذ هو يقول: يخلق كخلقه، على تقدير أن العبد يخلق أفعاله، ولو عنيا في قول المصنف هذه الآية لم يبعد، ومثل ذلك أيضا قوله تعالى: أفمن يخلق كمن لا يخلق ، تمدح بالخلق، فلو شاركه غيره في الخلق لما تم التمدح، وقال على وجه الإنكار: هل من خالق غير الله ، وقال في الثناء على نفسه: ألا له الخلق والأمر ، وقال تعالى: وخلق كل شيء فقدره تقديرا ، فهذه الآيات كلها شاهدة لما استدل به المصنف على تحقيق المطلوب (وفي قوله) تعالى: ( والله خلقكم وما تعملون ) حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام لهم [ ص: 163 ] حين كانوا ينحتون الأحجار بأيديهم ثم يعبدونها، ووجه الدلالة فيها إما على أن "ما" مصدرية، أي موصولا حرفيا لا يحتاج إلى عائد، فيستغنى عن تقدير الضمير المحذوف، فلو جعلت موصولا اسميا فظاهر للتصريح بأن العمل وهو الفعل مخلوق، والمعنى: والله خلقكم وخلق عملكم، وإليه ذهب سيبويه، واعترضت المعتزلة بأن معنى الآية إنكار السيد إبراهيم عليهم عبادة مخلوق ينحتونه بأيديهم، والحال أن الله تعالى خلقهم وخلق ذلك المنحوت، والمصدرية تنافي هذا الإنكار; إذ لا طباق بين إنكار عبادة ما ينحتون، وبين خلق عملهم، وحاصل الجواب المعارضة ببيان حصول الطباق مع المصدرية; إذ المعنى عليها: أتعبدون منحوتا تصيرونه بعملكم صنما، والحال أن الله خلقكم وخلق عملكم الذي يصير به المنحوت صنما، فقد ظهر الطباق، وكذا على أن تكون "ما" موصولة، والتقدير أي: معمولكم; فإن نزاع الخصم إنما هو في الآثار التي هي الحركات والسكنات والمعمولات، لا في التأثير المتعلق بها; إذ هو نسبة اعتبارية .

وقال السعد في شرح العقائد: قوله تعالى: والله خلقكم وما تعملون ، أي: عملكم، على أن "ما" مصدرية; لئلا يحتاج إلى حذف الضمير، أو: معمولكم، على أن "ما" موصولة، ويشمل الأفعال; لأنا إذا قلنا: أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، أو للعبد، لم نرد بالفعل المعنى المصدري الذي هو الإيجاد والإيقاع، بل الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد والإيقاع، أعني ما يشاهد من الحركات والسكنات مثلا، وللذهول عن هذه النكتة قد يتوهم أن الاستدلال بالآية موقوف على كون "ما" مصدرية. اهـ .

وقال ابن الهمام: أو لفظ "ما" موصول اسمي، يحتاج إلى عائد، ويكون التقدير: وخلق الذي تعملونه، فحذف العائد المنصوب بالفعل، والموصول الاسمي من أدوات العموم; فيشمل ما في الآية نفس الأحجار المنحوتة، والأفعال، وأعني بالفعل هنا الحاصل بالمصدر، وأهل العربية يقولون للمصدر: المفعول المطلق; لأنه هو الفعل بالحقيقة; لأنه الذي يوجده الفاعل ويفعله، وهو بناء على إرادة الحاصل بالمصدر; لأن الأمر الاعتباري لا وجود له، فلا يتعلق به الخلق; فوجب إجراء الآية على عمومها للأحجار المنحوتة، والأفعال .

قال ابن أبي شريف: والتحقيق أن عملهم - بمعنى الأثر الحاصل بالمصدر- هو معمولهم، ومعنى الموصولة وصلتها كذلك; فمآل الفعل فيهما واحد; لأن التقدير في الموصولة: وخلق العمل الذي تعملونه، أو الشيء الذي تعملونه. ودعوى عموم الآية للأعيان ممنوعة; لأن الأعيان ليست معمولة للعباد، بمعنى إيجادهم ذواتها، إنما هي معمول فيها النحت والتصوير وغيرهما من الأعمال، وإطلاق قول القائل: عملت الحجر صنما; مجاز، والمعنى الحقيقي هو أنه حوله بالنحت والتصوير إلى صورة الصنم; فلا ينافي شمول ما للأعيان بناء على أنها موصول اسمي إلا على القول باستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. اهـ .

وبهذا وبما تقدم للسعد تعلم ما وقع في بعض الحواشي من أن المعتزلة أعربوا "ما" من قوله تعالى: وما تعملون موصولة; توصلا إلى غرضهم من وقوعها على الأصنام المعبودة، وليست من عملهم، فيتوصلون إلى خروج أعمالهم من خلق الله تعالى، والحق أنها مصدرية; فلذلك كان الجهل باللسان العربي أصلا من أصول الكفر; إذ لولا هو من هذا الموضع لقامت الحجة علينا لهم، قبحهم الله تعالى. اهـ. ذهول عن النكتة التي بينها السعد، وألم عليها ابن أبي شريف، ثم تأمل في قوله: فلذلك كان الجهل باللسان العربي.. إلخ، وفي مرجع الضمير في قوله: إذ لولا هو في هذا الموضع لقامت الحجة علينا لهم; فإن الظاهر أنه ذهول ثان، كما يعلم من حواشي شرح العقائد، على أن "ما" لو كانت موصولة، كما يقول به المعتزلة، لم يكن في ذلك حجة علينا; فإن المعمول التي هي الأعيان، ليست محل النزاع بيننا وبينهم، كخشب السرير بالنسبة إلى النجار، وحيث كان كذلك فلا حجة لهم علينا بهذه الآية; إذ ليس فيها ما يصرح بالحصر، على أن بعضهم قال: إن ذلك الجسم بدون عمل العباد لا يكون معمولا، والله تعالى أثبت الخلق للمعمول، فدل أن العمل الذي صار به الجسم المخلوق معمولا كان مخلوقا حتى جعل المعمول مخلوقا له. اهـ. ولا يخلو عن تأمل .

قال الغنيمي في حواشي أم البراهين: ولا حجة لنا عليهم بها أيضا، بناء على أن "ما" مصدرية; إذ هي كما تحتمل المصدرية تحتمل أن تكون موصولة [ ص: 164 ] في اللسان العربي، كما ذهب إليه الأخفش في الآية ونحوها من كل فعل متعد اتصلت به "ما"، والدليل إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال، وخصوصا في مسائل الدين; فإن المطلوب فيها غالبا اليقين. اهـ. فدعوى أن القول بكونها موصولة جهل باللسان العربي، فتأمله .




الخدمات العلمية