يوضح ذلك أنهم قالوا في "الحيوانات -ناطقها وغير ناطقها- تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس، مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس، وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس: إدراكا جزئيا: يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده، فعندك قوة هذا شأنها، وعند كثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم بها غير الحافظ للصورة". إثبات القوة الوهمية: كما قال ابن سينا:
[ ص: 45 ] فقد تبين أن هذه القوة تدرك معاني غير محسوسة وغير متأدية في الحس، ففرق بينها وبين الحسية والخيالية بأن الخيالية إدراك ما تأدى من الحس.
وقد فسر الشارحون ما دل عليه كلامه فقالوا هذا بيان إثبات الوهم والحافظة: أما الوهم فقوة يدرك الحيوان بها معاني جزئية لم تتأد من الحواس إليها، كإدراك العداوة، والصداقة، والموافقة، والمخالفة في أشخاص جزئية، فإدراك تلك المعاني دليل على وجود قوة تدركها، وكونها مما لا يتأدى من الحواس، دليل على مغايرتها للحس المشترك، ووجودها في الحيوانات العجم دليل على مغايرتها للنفس الناطقة.
قالوا: وقد يستدل على ذلك أيضا بأن الإنسان ربما يخاف شيئا يقتضي عقله الأمن منه كالموتى، وما يخالف عقله فهو غير عقله.
وقال في "إشاراته": "كل ملتذ به فهو سبب كمال يحصل للمدرك هو بالقياس إليه خير، ثم لا يشك أن الكمالات وإدراكاتها متفاوتة، فكمال الشهوة مثلا أن يتكيف العضو [ ص: 46 ] الذاتي بكيفية الحلاوة مأخوذة عن مادتها، ولو وقع مثل ذلك، لا عن سبب خارج، كانت اللذة قائمة. وكذلك الملموس والمشموم ونحوهما. ابن سينا
وكمال القوة الغضبية: أن تتكيف النفس بكيفية غضب، أو بكيفية شعور بأذى يحصل من المغضوب عليه.
والوهم والتكيف بهيئة ما يرجوه أو يذكره، وعلى هذا حال سائر القوى".
والمقصود أنه جعل كمال الوهم اتصافه بصفة ما يرجوه أو يذكره، والمرجو في المستقبل، والمذكور في الماضي: كلاهما لا بد أن يكون هنا مما يوافقه ويحبه، فإن الكمال -كما قد ذكروه- إنما يكون بإدراك الملائم لا المنافي.
والقوة الوهمية هي التي تدرك بها الصداقة والعداوة، والموافقة والمخالفة. والصداقة هي الولاية التي أصلها المحبة، والعداوة أصلها البغض.
فالقوة الوهمية عندهم هي التي يدرك بها الحيوان ما يحبه وما يبغضه [ ص: 47 ] من المعاني التي لا تدرك بالحس والخيال، ثم يكون حبه وبغضه لمحل ذلك المعنى تبعا لحبه وبغضه ذلك المعنى، فالشاة إذا توهمت أن في الذئب قوة تنافرها أبغضته، والتيس إذا توهم أن في الشاة قوة تلائمه أحبها، فهذه القوة هي التي تدرك المحبوبات والمكروهات، من المعاني القائمة بالمحسوسات، وهي التي يحصل بها الرجاء والخوف، فيرجو حصول المحبوب، ويخاف حصول المكروه، ولهذا علقوا الرجاء والخوف بها، كما تقدم من كلامهم، وجعلوا كمالها في التكييف بهيئة ما ترجوه أو تذكره، وقالوا: إن خوف الإنسان من الموتى ونحوهم هو بهذه القوة.
وعلى هذا فكل حب وبغض، ورجاء وخوف لما لم يحسه الحيوان بحسه الظاهر، فهو بهذه القوة.