والمقصود هنا أن الحلولية إذا أراد النفاة للمباينة والحلول جميعا -من متكلمة الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية، كابن سينا والرازي وأمثالهم- أن يردوا عليهم حجة عقلية تبطل قولهم لم يمكنهم ذلك كما تقدم، بل وأبي حامد ولهذا لا تجد في النفاة من يرد على الحلولية ردا مستقيما، بل إن لم يكن موافقا لهم كان معهم بمنزلة المخنث، كالرافضي مع الناصبي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يقيم حجة على الناصبي الذي يكفره علنا أو يفسقه، فإنه إذا قال للرافضي: بماذا علمت أن يلزم من تجويزهم إثبات وجود لا داخل العالم ولا خارجه تجويز قول الحلولية، مؤمن ولي لله من أهل الجنة قبل ثبوت إمامته، وهذا إنما يعلم بالنقل، والنقل إما متواتر وإما آحاد؟ عليا
فإن قال له الرافضي: بما تواتر من إسلامه ودينه وجهاده وصلاته وغير ذلك من عباداته.
[ ص: 174 ] قال له: وهذا أيضا متواتر عن أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وغيرهم من الصحابة، وأنت تعتقد كفرهم أو فسقهم. وعمرو بن العاص
وقال له أيضا: أنت تقول: إن كان يستجيز التقية، وأن يظهر خلاف ما يبطن، ومن كان هذا قوله أمكن أن يظهر الإسلام مع نفاقه في الباطن. عليا
فإن قال الرافضي للناصبي: علمت ذلك بثناء النبي صلى الله عليه وسلم وشهادته له بالإيمان والجنة، كقوله: " وقوله: " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". هارون من موسى"، ونحو ذلك. أما ترضى أن تكون مني بمنزلة
قال له الناصبي: قد نقل أضعاف ذلك عن أبي بكر وعمر وأنت تطعن في تلك المنقولات أو تقول: إنهم ارتدوا بعد موته، فما يؤمنك إن كان قولك في هؤلاء صحيحا أن يكون علي كذلك؟ وعثمان،
[ ص: 175 ] وأيضا فهذه الأحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تذكر أنت كفرهم وفسقهم، والكافر والفاسق لا تقبل روايته.
فإن قال: هذه نقلها الشيعة.
قال له الناصبي: الشيعة لم يكونوا موجودين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون: إن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا: إما عشرة أو أقل، أو أكثر. ومثل هؤلاء يجوز عليهم المواطأة على الكذب.
فإن قال: أنا أثبت إيمانه بالقرآن، كقوله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه [سورة التوبة: 100] وقال: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم [سورة الفتح: 29].
وقال: وكلا وعد الله الحسنى [سورة النساء: 95].
وقوله: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [سورة الفتح: 18].
قال له الناصبي: هذه الآيات تتناول أبا بكر وغيرهما من المهاجرين والأنصار كما تتناول عليا، ليس في ظاهرها ما يخص عليا. وعمر
فإن جاز أن يدعي خروج هؤلاء منها، أو أنهم دخلوا فيها ثم خرجوا بالردة، أمكن الخوارج الذين يكفرون أن يقولوا مثل ذلك. عليا
والمقصود هنا أن الرافضة لا يمكنهم إقامة حجة صحيحة على [ ص: 176 ] الخوارج، وإنما يتمكن من ذلك أهل السنة والجماعة، الذين يقرون بعموم هذه الآيات، وتناولها لأهل بيعة الرضوان كلهم، ويقرون بالأحاديث الصحيحة المروية في فضائل الصحابة، وأنهم كانوا صادقين في روايتهم، فهم الذين يمكنهم الرد على الخوارج والروافض بالطرق الصحيحة السليمة عن التناقض.
وهكذا فإن قول هؤلاء نقيض قول الحلولية، ومن علم ثبوت أحد النقيضين أمكنه إبطال ما يقابله، بخلاف قول النفاة فإنه متضمن رفع النقيضين، أو ما هما في معنى النقيضين، ورفع النقيضين أشد بطلانا من إثبات أحدهما، بل أشد بطلانا من المناقض الباطل، فإن رفعهما يعلم امتناعه بصريح العقل، وأما انتفاء أحدهما فهو أخفى في العقل من رفعهما، فمن رفع النقيضين، أو ما في معناهما، لم يمكنه إبطال قول من أثبت أحدهما، وما من حجة يحتج بها من رفع المتقابلين، إلا ويمكن من أثبت أحدهما أن يحتج عليه بما هو أقوى منها من جنسها. الرد على الحلولية وبيان إبطال قولهم بالحق إنما يتمكن منه أهل السنة المثبتة لعلو الله على خلقه ومباينته لهم،
ولهذا كان إطباق العقول السليمة على إنكار قول النفاة المتقابلين أعظم من إطباقها على إنكار قول الحلولية، لأن الموجود الواجب الوجود كلما وصف بصفات المعدومات الممتنعات، كان أعظم بطلانا وفسادا من وصفه بما هو أقرب إلى الموجود.