وقد قال الله عز وجل: وممن ذكر ذلك الإمام أحمد فيما خرجه في "الرد على الزنادقة والجهمية" قال: "بيان ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله [ ص: 138 ] على العرش. قلنا لم أنكرتم أن الله على العرش؟ الرحمن على العرش استوى [سورة طه: 5]، فقالوا: هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السماوات، وفي الأرض، وفي كل مكان، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، وتلوا آيات من القرآن: وهو الله في السماوات وفي الأرض [سورة الأنعام: 3]، فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء. فقالوا: أي شيء؟ قلنا أحشاؤكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة، ليس فيها من عظم الرب شيء. وقد أخبرنا أنه في السماء فقال: [ ص: 139 ] أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض [سورة الملك: 16]، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا [سورة الملك: 17]، وقال تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب [سورة فاطر: 10]، وقال: إني متوفيك ورافعك إلي [سورة آل عمران: 55]، وقال: بل رفعه الله إليه [سورة النساء: 158]، وقال: وله من في السماوات والأرض ومن عنده [سورة الأنبياء: 19]، وقال: يخافون ربهم من فوقهم [سورة النحل: 50]، وقال: ذي المعارج [سورة المعارج: 3]، وقال: وهو القاهر فوق عباده [سورة الأنعام: 18]، وقال: وهو العلي العظيم [سورة البقرة: 255].
فهذا خبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذموما بقول الله عز وجل: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [سورة النساء: 145]، وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين [سورة فصلت: 29].
[ ص: 140 ] وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس مكانه مكان، فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد؟
ولكن معنى قول الله عز وجل: وهو الله في السماوات وفي الأرض [سورة آل عمران: 129]، يقول: هو إله من في السماوات وإله من في الأرض، وهو الله على العرش، وقد أحاط الله بعلمه ما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان.
وذلك قوله تعالى: لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [سورة الطلاق: 12].
ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلا كان في يديه قدح من قوارير صاف، وفيه شيء صاف، لكان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح، [ ص: 141 ] من غير أن يكون ابن آدم في القدح، والله -وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه.
وخصلة أخرى: لو أن رجلا بنى دارا بجميع مرافقها ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيت في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار.
فالله عز وجل -وله المثل الأعلى- قد أحاط بجميع ما خلق، وعلم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق.
وما تأول الجهمية من قول الله عز وجل: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم [سورة المجادلة: 7]، فقالوا: إن الله عز وجل معنا وفينا. قال: فقلنا: فلم قطعتم الخبر من أوله بأن الله [ ص: 142 ] يقول: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم يعني: إلا الله -بعلمه- رابعهم، ولا خمسة إلا هو بعلمه سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم يعني بعلمه فيهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم [سورة المجادلة: 7]، يفتح الخبر بعلمه فيهم ويختمه بعلمه.
ويقال للجهمي: إذا قال: إن الله معنا بعظمة نفسه. قيل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن الله يباين خلقه، وأن خلقه دونه، وإن قال لا [ ص: 143 ] كفر. وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. فقل له: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل: واحد منها: إن زعم أن الله خلق في نفسه فقد كفر، حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه، وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضا كفرا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء. وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه، ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع، وهو قول أهل السنة".