الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والأقسام الممكنة ثلاثة: إما أن يقال بوجوب المقارنة، أو بوجوب التأخر، أو بجواز الأمرين، وما ذكرته لا يدل على شيء من ذلك، ولو دل فإنما يدل على جواز الاقتران، لا على وجوبه، وأنت فيما ذكرته هناك جوزت تأخر المعلول، فلا منافاة بين الأمرين.

وذلك أن غاية ما ذكرته أن المؤثر - أي: المعلول الذي هو المصنوع المفعول - إما أن أن تكون تأثيراته قديمة كواجب الوجود، وذلك لا ينفي أن يكون التأثير به هو الإحداث، فإن فاعل هذه الحادثات تأثيره فيها في حال الوجود مع كونها محدثة، فليس كون التأثير فيها في حال وجودها مما ينفي أنه لا بد أن تكون محدثة.

وقولك: (إذا كان التأثير فيها في حال وجودها فلا فرق بينه أن يكون وجودها مسبوقا بالعدم، أو غير مسبوق) دعوى مجردة، لاستواء الحالين. والعقلاء يعلمون - بضرورة عقلهم - أن المبدع الفاعل لا يعقل أن يبدع القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا، وإنما يعقل إبداع ما لم [ ص: 70 ] يكن ثم كان، بل العقلاء متفقون على أن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثا بعد عدمه، ولا يكون قديما أزليا.

وهذا مما اتفق عليه الفلاسفة مع سائر العقلاء، وقد صرح به أرسطو وجميع أتباعه، حتى ابن سينا وأتباعه، ولكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا، فادعوا في موضع آخر أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه قد يكون قديما أزليا، ومن قبله من الفلاسفة - حتى الفارابي - لم يدعوا ذلك، ولا تناقضوا. وقد حكينا أقوالهم في غير هذا الموضع.

وأما المقدمة الثانية التي بنوا عليها امتناع العلل المتعاقبة، فهي مبنية على امتناع حوادث لا أول لها، والمتفلسف لا يقول بذلك، فلم يمكنهم أن يجعلوها مقدمة في إثبات واجب الوجود.

والتحقيق أنه لا يحتاج إليها، بل ولا يحتاج في إثبات واجب الوجود إلى هذه الطريقة، كما قد بينا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.

وهؤلاء تجدهم - مع كثرة كلامهم في النظريات والعقليات، وتعظيمهم للعلم الإلهي الذي هو سيد العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسناها - لا يحققون ما هو المقصود منه، بل لا يحققون ما هو المعلوم لجماهير الخلائق، وإن أثبتوه طولوا فيه الطريق مع إمكان تقصيرها، بل قد يورثون الناس شكا فيما هو معلوم لهم بالفطرة الضرورية. [ ص: 71 ]

والرسل صلوات الله عليهم وسلامه بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بإفسادها وتغييرها. قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون [سورة الروم: 30 – 32] .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم فطرت الله التي فطر الناس عليها قالوا: يا رسول الله، أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟ فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». [ ص: 72 ]

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا».

فالإقرار بالخالق سبحانه وتعالى، والاعتراف بوجود موجود واجب الوجود قديم أزلي، كما أنه مركوز في الفطرة مستقر في القلوب، فبراهينه وأدلته متعددة جدا، ليس هذا موضعها، وهؤلاء عامة ما يذكرونه من الطرق: إما أن يكون فيه خلل، وإما أن يكون طويلا كثير التعب، والغالب عليهم الأول.

التالي السابق


الخدمات العلمية