وأيضا فيقال: والعلم بذلك ضروري؛ إذ طبيعة الحدث تقتضي الافتقار إلى فاعل، فلا بد لكل ما يقدر محدثا من فاعل، فيمتنع أن يكون فاعل كل المحدثات محدثا، فوجب أن يكون قديما. [ ص: 113 ] الحوادث المشهودة لا بد لها من محدث؛ إذ المحدث من حيث هو محدث، وكل ما يقدر محدثا، سواء قدر متناهيا أو غير متناه، لا يوجد بنفسه، بل لا بد له من فاعل ليس بمحدث،
وأيضا فالمحدث مفتقر إلى محدث كامل، مستقل بالفعل، إذ ما ليس مستقلا بالفعل مفتقر إلى غيره، فلا يكون هو وحده الفاعل، بل الفاعل هو وذلك الغير، فلا يكون وحده فاعلا للمحدث، ثم ذلك الغير إن كان محدثا فلا بد له من فاعل أيضا، فلا بد للمحدثات من فاعل مستقل بالفعل مستغن عن جميع محدثاته، والعقل يعلم ضرورة افتقار المحدث إلى المحدث الفاعل، ويقطع به ويعلمه ضرورة أبلغ من علمه بافتقار الممكن إلى الواجب الموجب له، فلا يحتاج أن يقال في ذلك أن المحدث يتخصص بزمان دون زمان أو بقدر دون قدر، ولا بد للتخصيص من مخصص، فإن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين في العقل وأبده له.
ولهذا قال تعالى: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [سورة الطور: 35]
قال لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها أحسست بفؤادي قد انصدع. جبير بن مطعم:
وقال أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [سورة الواقعة: 58 – 59] إذ كان كل من القسمين: وهو كونهم خلقوا من غير خالق، وكونهم خلقوا أنفسهم معلوم الانتفاء بالضرورة، فإن الإنسان يعلم بالضرورة أنه لم يحدث من غير محدث، وأنه لم يحدث نفسه. فلما كان العلم بأنه لا بد له من محدث، وأن محدثه ليس هو إياه علما ضروريا، ثبت بالضرورة أن له محدثا خالقا غيره، وكل ما يقدر فيه أنه مخلوق فهو كذلك. [ ص: 114 ]
والخلق يتضمن الحدوث والتقدير، ففيه معنى الإبداع والتقدير، وإذا علمت أن الممكن لا بد له من مرجح يجب به، وإلا لم يكن موجودا، بل يبقى معدوما على أصح القولين، أو مترددا بين الوجود والعدم على الآخر، فالمحدث لا بد له من فاعل يستغنى به المفعول فيكون به، وإلا بقي مفتقرا إلى غيره، وإذا قدر محدثه أيضا فهو أيضا محدث لم يستغن به؛ لأن ذلك المحدث مفتقر إلى غيره، فالمفتقر إليه مفتقر إلى ذلك الغير، الذي هو الأول مفتقر إليه بطريق الأولى، فلا توجد الحوادث إلا بفاعل غني عن غيره، وكل محدث مفتقر إلى غيره، فلا توجد الحوادث إلا بفاعل قديم غير محدث، فهذه طرق متعددة يثبت بها الموجود الواجب بنفسه القديم.