وإذا قيل: إن لم نرد به أنه يقبلهما على سبيل الجمع، فإن هذا جمع بين النقيضين، بل المراد به أنه يقبل الوجود بدلا عن العدم، والعدم بدلا عن الوجود، فإذا كان معدوما كان قابلا لدوام العدم وقابلا لحدوث الوجود، وإذا كان موجودا قبل دوام الوجود، وقبل حدوث العدم -هذا إذا اعتبر حاله في الخارج، وإن اعتبر حاله في الذهن فالمراد [ ص: 256 ] أن ما يتصوره في الذهن يمكن أن يوجد في الخارج، ويمكن أن لا يوجد. فبكل حال إذا اعتبر الممكن ذهنيا أو خارجيا لا يتحقق فيه الإمكان إلا مع إمكان العدم تارة ووجوده أخرى، فما كان ضروري العدم -كالجمع بين النقيضين- لا يكون ممكنا، وما كان ضروري الوجود -وهو القديم الأزلي- لا يكون ممكنا، وقد وافق على هذا جميع الفلاسفة: الممكن يقبل الوجود والعدم، أرسطو وجميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين والعقلاء، أما مع وجوب وجوده بنفسه أو بغيره دائما، فليس هناك ممكن يحكم عليه بقبول الوجود والعدم.
ولما سلك الرازي ونحوه مسلك في إثبات إمكان مثل هذا اضطربوا في الممكن، وورد عليهم فيه إشكالات كثيرة، كما هو موجود في كتبهم. كما أوردوه ابن سينا الرازي في "محصله" من الحجج الدالة على نفي هذا الممكن ولم يكن له عنها جواب إلا دعواه أن ما كان متغيرا فإنه يعلم إمكانه بالضرورة.
وهذه الدعوى يخالفه فيها جمهور العقلاء، حتى أرسطو وأصحابه، وهذا الذي نبهنا عليه هو أحد ما يستدل به على أن كما قد بسط في موضعه. [ ص: 257 ] كل ممكن فهو مسبوق بالعدم، وكل ما سوى الله ممكن، فكل ما سوى الله حادث عن عدم،
والمقصود هنا أن الذين استدلوا بهذه الأدلة على افتقار الممكنات إلى واجب خارج عنها. فإن مرادهم بقولهم: جملة ما يفتقر إليه مجموع الممكنات هو المؤثر التام، وهو المرجح التام الذي يلزم من وجوده بتأثيره التام وجودها، كما ذكرناه من أن الفاعل باختياره إذا وجدت قدرته التامة وإرادته التامة وجب وجود المقدور. وهي الممكنات.