الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والوجه الثاني: أن يقال: النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالاستعاذة وحدها، بل أمر العبد أن ينتهي عن ذلك مع الاستعاذة، إعلاما منه بأن هذا السؤال هو نهاية الوسواس، فيجب الانتهاء عنه، [ ص: 314 ] ليس هو من البدايات التي يزيلها ما بعده، فإن النفس تطلب سبب كل حادث وأول كل شيء حتى تنتهي إلى الغاية والمنتهى.

وقد قال الله تعالى: وأن إلى ربك المنتهى [سورة النجم: 42]. وفي الدعاء المأثور الذي ذكره مالك في الموطأ: «حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله مرمى».

وفي رواية: «ليس وراء الله منتهى».

فإذا وصل العبد إلى غاية الغايات، ونهاية النهايات، وجب وقوفه، فإذا طلب بعد ذلك شيئا آخر وجب أن ينتهي، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد أن ينتهي مع استجارته بالله من وسواس التسلسل، كما يؤمر كل من حصل نهاية المطلوب وغاية المارد أن ينتهي، إذ كل طالب ومريد فلا بد له من مطلوب ومراد ينتهي إليه، وإنما وجب انتهاؤه لأنه من المعلوم بالعلم الضروري الفطري لكل من سلمت فطرته من بني آدم أنه سؤال فاسد، وأنه يمتنع أن يكون لخالق كل مخلوق خالق، فإنه لو كان له خالق لكان مخلوقا. ولم يكن خالقا لكل مخلوق، بل كان يكون من جملة المخلوقات، والمخلوقات كلها لا بد لها من خالق، وهذا معلوم بالضرورة والفطرة، وإن لم يخطر ببال العبد قطع الدور والتسلسل، فإن وجود المخلوقات كلها بدون خالق معلوم الامتناع بالضرورة. [ ص: 315 ]

وإذا قلنا: يمتنع وجود المحدثات كلها بدون محدث، كان هذا متضمنا لذاك، فإن كل مخلوق محدث، فإذا كان كل محدث لا بد له من محدث، فكل مخلوق لا بد له من خالق أولى، وكذلك إذا قلنا: كل ممكن لا بد له من واجب.

فلما كان بطلان هذا السؤال معلوما بالفطرة والضرورة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتهى عنه، كما يؤمر أن ينتهى عن كل ما يعلم فساده من الأسولة الفاسدة التي يعلم فسادها، كما لو قيل: متى حدث الله؟ أو متى يموت؟ ونحو ذلك.

وهذا مما يبين أن سؤال السائل: أين كان ربنا؟ في حديث أبي رزين لم يكن هذا السؤال فاسدا عنده صلى الله عليه وسلم، كسؤال السائل: من خلق الله؟ فإنه لم ينه السائل عن ذلك، ولا أمره بالاستعاذة، بل النبي صلى الله عليه وسلم سأل بذلك لغير واحد، فقال له: أين الله؟ وهو منزه أن يسأل سؤالا فاسدا، وسمع الجواب عن ذلك. وهو منزه أن يقر على جواب فاسد، ولما سئل عن ذلك أجاب، فكان سائلا به تارة، ومجيبا عنه أخرى.

ولو كان المقصود مجرد التمييز بين الرب والصنم، مع علم الرسول أن [ ص: 316 ] السؤال والجواب فاسدان، لكان في الأسولة الصحيحة ما يغني غير الرسول عن الأسولة الفاسدة، فكيف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم! فإنه كان يمكن أن يقول: من ربك؟ من تعبدين؟ كما قال لحصين الخزاعي: يا حصين كم تعبد اليوم؟ قال أعبد سبعة آلهة، ستة في الأرض وواحدا في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، فقال: أسلم حتى أعلمك كلمة ينفعك الله بها، فلما أسلم سأله عن الدعوة فقال: قل: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي. رواه أحمد في المسند وغير أحمد.

التالي السابق


الخدمات العلمية