وأما تقسيم اللازمة إلى ذاتي وعرضي، وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية ولازم للوجود، وغير لازم بل عارض، فهذا خطأ عند نظار الإسلام وغيرهم.
بل طائفة من نظار الإسلام قسموا اللازم إلى: ذاتي ومعنوي، وعنوا بالصفات الذاتية: ما لا يمكن تصور الذات مع عدمه، وعنوا بالمعنوي: ما يمكن تصور الذات بدون تصوره، وإن كان لازما للذات فلا يلزمها إلا إذا تصور معينا يقوم بالذات.
فالأول عندهم مثل كون الرب قائما بنفسه وموجودا، بل وكذلك كونه قديما عند أكثرهم، فإن يقول: القديم يقدم، ابن كلاب له قولان، أشهرهما عند أصحابه: أنه قديم بغير قدم، لكنه باق ببقاء، وقد وافقه على ذلك والأشعري ابن أبي موسى وغيره. وأما القاضي [ ص: 323 ] أبو بكر فإنه يقول: باق بغير بقاء، ووافقه على ذلك أبو يعلى وأبو المعالي وغيرهما.
والثاني عندهم: مثل كونه حيا وعليما وقديرا ونحو ذلك.
وتقسيم هؤلاء اللازمة إلى ذاتي ومعنوي، كلام ليس هذا موضع بسطه، فإنهم لم يعنوا بالذاتي ما يلزم الذات، إذ الجميع لازم للذات، ولا عنوا بالذاتي: المقوم للذات، كاصطلاح المنطقيين: فإن هؤلاء ليس عندهم في الذوات ما هو مركب من الصفات: كالجنس والفصل، ولا يقسمون الصفات إلى مقوم داخل في الماهية هو جزء منها، وإلى عرضي خارج عنها ليس مقوما، بل هذا التقسيم عندهم وعند جمهور العقلاء خطأ كما هو خطأ في نفس الأمر، إذ التفريق بين الذاتي المقوم، واللازم الخارج، تفريق باطل لا يعود إلا إلى مجرد تحكم يتضمن التفريق بين المتماثلين كما قد بسط في موضعه.
ولهذا يعترف حذاق أئمة أهل المنطق -كابن سينا وأبي البركات صاحب "المعتبر" وغيرهما- بأنه لا يمكن ذكر فرق مطرد بين هذا وهذا، وذكر ثلاثة فروق مع اعترافه بأنه ليس واحد منها [ ص: 324 ] صحيحا، واعترض ابن سينا أبو البركات على ما ذكره بما يبين فساد الفرق بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم. ابن سينا
وأبو البركات لما كان معتبرا لما ذكره أئمة المشائين لا يقلدهم، ولا يتعصب لهم كما يفعله غيره -مثل وأمثاله- نبه على أن ما ذكره ابن سينا أرسطو وأصحابه في هذا الموضع مما لم تعرف صحته ولا منفعته.
وغير أبي البركات بين فساده وتناقضه، وصنف مصنفات في الرد على أهل المنطق، كما صنف أبو هاشم وابن النوبختي والقاضي أبو بكر بن الطيب وغيرهم.
وهؤلاء الكلابية الذين يفرقون بين الصفات الذاتية والمعنوية هم أصح نظرا من هؤلاء المنطقيين، وهم ينكرون ما ذكر المنطقيون من الفرق، فلا يعود تفريقهم إلى تفريق المنطقيين، بل تفريقهم يعود إلى ما ذكروه هم من أن الصفات الذاتية عندهم ما لا يمكن تصور الذات مع تصور عدمها، والصفات المعنوية ما يمكن تصور الذات مع تصور عدمها، كالحياة والعلم والقدرة، فإنه يمكن تصور الذات مع نفي هذه الصفات، ولا يمكن تصور الذات مع نفي كونها قائمة بالنفس وموجودة، وكذلك لا يمكن ذلك مع نفي كونها قديمة عند أكثرهم.
وابن كلاب -في أحد قوليه- جعل القدم كالعلم والقدرة، والبقاء فيه نزاع بين والأشعري ومن اتبعه الأشعري كأبي علي بن [ ص: 325 ] أبي موسى وأمثاله، وبين ومن اتبعه القاضي أبي بكر وأمثاله. كالقاضي أبي يعلى
وهؤلاء أيضا تفريقهم باطل، فإن قولهم: لا يمكن تصور الذات مع نفي تلك الصفة.
يقال لهم: لفظ التصور مجمل يراد به تصور ما، وهو الشعور بالمتصور من طريق الوجود، ويراد به التصور التام، وما من متصور إلا وفوقه تصور أتم منه.
ومن هذا دخل الداخل على هؤلاء المنطقيين الغالطين وعلى هؤلاء، فإن عنوا به التصور التام للذات الثابتة في الخارج التي لها صفات لازمة لها، فهذه لا يمكن تصورها كما هي عليه، مع نفي هذه الصفات، فإذا عني بالماهية ما يتصوره المتصور في ذهنه، فهذا يزيد وينقص بحسب تصور الأذهان.
وإن عنوا به ما في الخارج فلا يوجد بدون جميع لوازمه، وإن عني بذلك أنه لا يمكن تصورها بوجه من الوجوه مع نفي هذه الصفات، فهذا يرد عليهم فيما جعلوه ذاتيا مثل كونه قائما بنفسه وكونه قديما ونحو ذلك.
فإنه قد يتصور الذات تصورا ما من لا يخطر بقلبه هذه المعاني، بل [ ص: 326 ] من ينفي هذه المعاني أيضا، وإن كان ضالا في نفيها. كما أن من نفى الحياة والعلم والقدرة كان ضالا في نفيها.
وإذا قيل: لا يمكن وجود الفعل إلا من ذات قائمة بنفسها قديمة.
قيل: ولا يمكن إلا من ذات حية عالمة قادرة.
فإذا قيل: هذه يمكن بعض العقلاء أن يتصور كونها فاعلا مع انتفاء هذه الصفات.
قيل: هذا تصور باطل، والتصورات الباطلة لا ضابط لها. فقد يمكن ضال آخر أن يتصور كونها فاعلة مع عدم القيام بالنفس، فإن الفرق إذا عاد إلى اعتقاد المعتقدين، لا إلى حقائق موجودة في الخارج، كان فرقا ذهنيا اعتباريا، لا فرقا حقيقيا من جنس فرق أهل المنطق بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم، فإنه يعود إلى ذلك حيث جعلوا الذاتي ما لا تتصور الماهية بدون تصوره، والعرضي ما يمكن تصورها بدون تصوره، وليس هذا بفرق في نفس الأمر، وإنما يعود إلى ما تقدره الأذهان، فإنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه، فإن أريد بالتصور مطلق الشعور بالشيء فيمكن الشعور به بدون الصفات التي جعلوها ذاتية، فإنه قد يشعر بالإنسان من لا يخطر بباله أنه حيوان ناطق أو جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق.
وإن أرادوا التصور التام، فقول القائل: حيوان ناطق لا يوجب [ ص: 327 ] التصور التام للموصوف، بل ما من تصور إلا وفوقه تصور أكمل منه، فإن صفات الموصوف ليست منحصرة فيما ذكروه.
وإن قالوا: نريد به التصور التام للصفات الذاتية، عادت المطالبة بالفرق فيبقى الكلام دورا.
وهذا كما أنهم يقولون: ماهية الشيء هي المركبة من الصفات الذاتية، ثم يقولون: الصفات الذاتية هي التي يتوقف تحقق الماهية عليها، أو يقف تصور الماهية عليها، فلا تعقل الصفة الذاتية حتى تعقل الماهية، ولا تعقل الماهية حتى تعقل الصفة الذاتية لها، فيبقى الكلام دورا.
كما يجعلون الصفات الذاتية أجزاء للماهية مقومة لها سابقة لها في الحقيقة في الوجودين الذهني والخارجي، مع العلم بأن الذات أحق بأن تكون سابقة من الصفات إن قدر أن هناك سبقا، وإلا فهما متلازمان.
وإذا قيل: هي أجزاء.
قيل: إن كانت جواهر، كان الجوهر الواحد جواهر كثيرة، وإن كانت أعراضا فهي صفات.