الوجه الرابع: أن هذه المعارضة قد أخذها الرازي ممن احتج بها قبله كأبي المعالي وذويه، فإنهم ذكروها في وذكروها في «مسألة حدوث العالم» لما أورد عليهم كل واحدة من الطائفتين، ما عارضهم به من القضيتين الفطريتين، فظنوا أنهم بهذا الإلزام أنهم يخلصون من معارضة الطائفتين، ويجعلون ذلك دليلا على أنها من حكم الوهم، ومع هذا لم يخلصوا بذلك من معارضة الطائفتين، بل ادعوا ما يخالف العقل الصريح، وكان ذلك مما سلط عليهم الفلاسفة الدهرية: رأوا احتجاجهم بهذه الحجة الضعيفة، وكان ذلك مما سلط عليه المسلمون المثبتون، وهذا كما ذكره «مسألة الجهة» في مناظرة الإمام أحمد للسمنية. [ ص: 392 ] جهم
فهكذا أجاب أهل الكلام، الذين تكلموا في مناظرة الكفار، وأهل الأهواء من المذاهب والحجج بما ليس موافقا للشريعة، وما ينكره العقل الصريح، فصاروا كما جاهد من جاهد الكفار جهادا ظلمهم به، وخرج فيه عن الشريعة، وظلم فيه المؤمنين جميعا، حتى كان مضرة ذلك الجهاد على المسلمين، وعلى أنفسهم وعلى عدوهم أكثر من منفعته. وقد بسطنا الكلام في أمثال هذا في غير هذا الموضع.
ثم غاية ذلك أنه جواب إلزامي لا علمي، وهو لا ينفع لا للناظر ولا للمناظر; وذلك أن المثبت إذا قال لهم: كل [ ص: 393 ] موجودين فإما أن يكون أحدهما حالا في الآخر، أو بائنا عنه. كان من المعروف بنفسه أن هذا حكم الفطرة الإنسانية الموجودة لبني آدم، وهذه الفطرة الضرورية لا تندفع بمعارضة ولا جدل. فإذا قالوا: هذا من حكم الوهم الباطل، وبمنزلة قول الدهرية من الفلاسفة وغيرهم: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما متقدما على الآخر أو مقارنا له. قيل له: هب أن الأمر كذلك، فهذا الذي مثلت به هو حق أيضا تقبله الفطرة وتحكم به. فإذا قال: هذا من حجة الدهرية القائلين بقدم العالم، فإذا صححناه لزمنا القول بقدم العالم وهو باطل، وما استلزم الباطل فهو باطل. قيل له: هذه القضية معلومة بينة بنفسها فطرية ضرورية، وأما كونها مستلزمة للقول بقدم العالم، فهذا ليس بين ولا معلوم; بل أنت تقوله، وقد يكون هذا من ضعف جوابك عن دعوى التلازم، فلما عجزت عن الجواب سلمت التلازم.