الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فصل

القول: بأن الله تعالى ليس فوق العرش. أول من ابتدعه في الإسلام الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وشيعتهما، وهم عند الأمة من شرار أهل الأهواء، وقد أطلق السلف من القول بتكفيرهم ما لم يطلقوه بتكفير أحد، وقالوا: نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نحكي كلام الجهمية، وقالوا: اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أن الله تعالى فوق العرش، وقالت الجهمية ليس فوق العرش. وليس هذا [ ص: 418 ] قول أئمة متكلمة الصفاتية; لا أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، ولا أبي العباس القلانسي ونحوهما، ولا قول أبي الحسن الأشعري، وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري، والقاضي أبي بكر الباقلاني وغيرهم من أئمة الأشعرية، الذين تزعم أنهم أصحابك. وإن قيل: إن هؤلاء متناقضون في أقوالهم، لم يكن نفي قول الأثبات، الذين صرحوا به عنهم لقولهم بما يناقضه بأولى من نفي القول النافي عنهم لقولهم ما يناقضه، لا سيما إذا كان المعروف عنهم أن الإثبات آخر القولين. وإذا كان أبو المعالي والشهرستاني وطوائف غيرهما، قد خالفوا من خالفوه، من أئمة أصحابهم وقدمائهم في الإثبات، لم يجز أن يجعل قولهم هو قول أولئك; بل نقل لمذهب إمامه، مع أنا قد ذكرنا بنقل العدول الأئمة أن أبا المعالي تحير في هذه المسألة في حياته، ورجع إلى دين أهل الفطرة، كالعجائز عند مماته، وكذلك الرازي أيضا حيرته وتوبته معروفة، وكذلك أئمة هؤلاء. [ ص: 419 ] ثم يقال: هب أنه قول هؤلاء، أفهؤلاء ومن وافقوه من المعتزلة، هم أهل التوحيد والتنزيه دون سائر النبيين والمرسلين والصحابة، والتابعين وسائر أئمة المسلمين وسائر الطوائف من أئمة الفقهاء، والصوفية والمحدثين وأصناف المتكلمين، الذين لم يوافقوا هؤلاء في هذا السلب، بل يصرحون بنقيضه، أو بما يستلزم نقيضه؟!! وكلامهم في ذلك ملء العالم، مع موافقتهم للكتب المنزلة من السماء، وللفطرة الضرورية التي عليها عموم الدهماء، والمقاييس العقلية السليمة عن المراء. وقد ذكر هذا الإمام لأتباعه أبو عبد الله الرازي - في كتابه «أقسام اللذات» لما ذكر اللذة العقلية، وأنها العلم، وأن أشرف العلوم العلم بالله، لكنه العلم بالذات، والصفات، والأفعال، وعلى كل واحدة من ذلك عنده: هل الوجود هو الماهية أم قدر زائد؟ وهل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وهل الفعل مقارن أو محدث؟ ثم قال: «ومن الذي وصل إلى هذا الباب، [ ص: 420 ] أو ذاق من هذا الشراب؟!.


نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال     وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذى ووبال     ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقال

لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق، طريقة القرآن; اقرأ في الإثبات: الرحمن على العرش استوى [طه: 5] إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10] واقرأ في النفي: ليس كمثله شيء [الشورى: 11] ولا يحيطون به علما [طه: 110] ثم قال: «ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي» ومثل [ ص: 421 ] هذا كثير عن هؤلاء، أئمة هذه المقالة النافية، يعترفون بعدم العلم بها، ويرجعون إلى ما عليه أهل الفطرة، وما عليه أهل الظاهر -الحشوية عندهم- فكيف يكونون هم أهل التوحيد والتنزيه، مع هذا الريب والشك والحيرة والتمويه؟!!.

التالي السابق


الخدمات العلمية