والمقصود هنا أن أولئك المتكلمين لما راموا إثبات وجود الصانع وخلق العالم، سلكوا الطريقة التي ابتدعوها من الاستدلال على حدوث الموصوفات، بحدوث صفاتها أو بحدوث صفاتها وأفعالها، وسموا ذلك أجساما أو جواهر، وسموا صفاتها وأفعالها أعراضا، وبنوا الحجة على مقدمتين:
إحداهما: أن الموصوفات لا تخلو عن أعراض حادثة، من صفات وأفعال تعتقب عليها. [ ص: 441 ] والثانية: أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
فاحتجوا في تقرير «المقدمة الأولى» إلى ثبوت الأعراض أو بعضها، وحدوثها أو حدوث بعضها، وأن الأجسام لا تخلو منها أو من بعضها. فتارة يستدلون بما شهدوه من الاجتماع والافتراق، وتارة يقولون: إنه لازم لها من الحركة والسكون -وهذه الأقسام الأربعة هي الأكوان عندهم- وهذه حجة الصفاتية يحتجون بالأكوان، ويقولون: إن الله تعالى لا يوصف بها، وآخرون فيهم لا يحتجون إلا بجواز الاجتماع والافتراق دون الحركة والسكون حتى يستقيم له أن يصف الرب بذلك، ويقول عن هذا الذي لا تخلو الجواهر منه، وهو مبني [ ص: 442 ] على الجوهر الفرد. وتارة يدعي بعضهم حدوث جميع الأعراض زعما منه أن العرض لا يبقى زمانين; ويدعون مع ذلك بأن كل جسم فلن يخلو عما يمكن قبوله من الأعراض، أو عن ضد. ونشأ بينهم في هذا من المقالات والنزاع ما يطول ذكره.
وأما المقدمة الثانية: فكانت في بادئ الرأي أظهر; ولهذا كثير منهم يأخذها مسلمة، فإن ما لا يخلو عن الحادث فهو مقارنه ومجامعه لا يتقدم عليه، وإذا قدر شيئان متقارنان لا يتقدم أحدهما الآخر، وأحدهما حادث كان الآخر حادثا.
لكن في اللفظ إجمال، فإن هذا القائل: ما لا يخلو عن الحوادث، أو ما لا يسبق الحوادث: فهو حادث، أو ما تعتقب عليه الحوادث فهو حادث ونحو ذلك. له معنيان:
أحدهما: ما لا يخلو عن حوادث معينة لها ابتداء. فلا ريب أن ما تقدم على ما له ابتداء فله ابتداء.
والثاني: أن ما لا يخلو عن جنس الحوادث -بحيث لم يزل قائما به ما يكون فعلا له، كالحركة التي تحدث شيئا بعد شيء- فهذا لا يعلم أنه حادث، إن لم يعلم أن ذلك الجنس لا يكون [ ص: 443 ] قديما، بل يمنع حوادث لا أول لها، وهذه مقدمة مشكلة، بل كلام المتكلمين والفلاسفة فيما يتناهى وفيما لا يتناهى فيه من الاضطراب ما ليس هذا موضعه، فاحتاجوا أن يستدلوا على هذه بأدلة التزموا طردها، فنشأ عن ذلك مذاهب أخر; كنفي التناهي في المستقبل، حتى قال طوائف -منهم الجهم- بوجوب فناء العالم لوجوب تناهيه أولا وآخرا، فقال: بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل، بوجوب فناء الحركات، إلى مقالات. [ ص: 444 ] وإن كان طوائف من المصنفين في الكلام لا يتعرضون لهذه المقدمة، بل يرون أن قولهم: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، يكفي في العلم بحدوث ما التزمته الحوادث. وهؤلاء يقولون إن قولنا: حوادث، وقولنا: لا أول لها. مناقضة ظاهرة في اللفظ والمعنى، وأن لفظ كونها حوادث يوجب أن يكون لها أول. وهذه طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما. وقولهم هذا يشبه قولهم: إن ولأجل ما في هذه القضية من الاشتباه خفي عليهم هذا الموضع الذي لا بد من معرفته، وبهذه الطريقة نفوا أن يقوم به فعل من الأفعال، فنفوا أن الرب استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويا، كما نطق به القرآن في قوله تعالى: نفي حدوث العالم هو قول نفاة الصانع، خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش [ ص: 445 ] [الأعراف: 54] وكان عرشه على الماء [هود: 7] فخص الاستواء بكونه بعد خلق السموات والأرض، كما خصه بأنه على العرش، وهذا التخصيص المكاني والزماني، كتخصيص النزول وغيره، إذ أبطلوا بهذه الطريقة أن يكون على العرش مطلقا، وإن كان كثير ممن يسلك هذه الطريقة يجوز عليه الأفعال الحادثة، فلا يمنع حدوث الاستواء، كما كان كثير ممن ينفي ذلك، يقول باستوائه على العرش مع نفي قيام الفعل به، كما سيأتي مأخذ الناس في هذا.