[ ص: 262 ] فصل
ثم قال الرازي: (العاشر أن ثم معرفة أفعال الله تعالى وصفاته أقرب إلى العقول من معرفة ذات الله تعالى، المشبهة وافقونا على أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف حكم الحس والخيال ).
يقال له: إن أردت أن أفعال الله تعالى وصفاته تثبت بلا مثال. فهذا حق، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، كما قال تعالى: ليس كمثله شيء [الشورى: 11 ]. وقال تعالى: فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم، وأنتم لا تعلمون [النحل: 74 ]، وذلك أنا لا نعلم الشيء إلا أن ندركه نفسه أو ندرك ما قد يكون مماثلا له أو مشابها له من بعض الوجوه، والله يعلم الأشياء كلها ونحن لا نعلم، فليس لنا أن نضرب له الأمثال بلا علم.
وإن أراد به أن يثبت ما يعلم بالحس أو العقل عدمه. فهذا باطل، وقد تقدم هذا في أول هذه المقدمة، وبينا الفرق بين [ ص: 263 ] ما يعلم عدمه وبين ما [يعلم ] عدم مثاله، كما بينا الفرق بين ما يعلم عدمه وبين ما لا يعلم وجوده أو كيفيته. وهذا الأصل ينبغي استبصاره واستذكاره، فإنه بسبب الاشتباه فيه يقع من لبس الحق بالباطل ما الله به عليم.
وأيضا فإنه لا اختصاص للحس والخيال بكونهما يثبت على خلاف حكمهما، فإنه إن أراد أنها تنافي ما علم بالحس والخيال [أنها ] تنافي معرفة أفعاله؛ لأن الحس والخيال يدرك عدم ذلك فهو باطل، ولو أراد أنه يثبت من أفعاله ما لا يعلم نظيره أو ما لا يحيط العلم بحقيقته بحس ولا خيال. فيقال: وما لا يعلم نظيره بعقل ولا علم ولا قياس، فلا فرق بين ثبوتها بهذا الاعتبار على خلاف حكم الحس والخيال أو على خلاف حكم العلم والعقل. وهذا الكلام أيضا كلام نافع في هذه المواضع.
وليس لأحد أن يفرق بينهما بأن لوجهين: أحدهما- أنه لا فرق في هذا بين أفعال الله تعالى وصفاته [ ص: 264 ] وبين سائر الأشياء؛ فإن الإنسان إذا أحس أمرا أو تخيله حصل له من العلم والعقل بسبب ذلك ما لم يدركه الحس والخيال، كما يعقل الأمور العامة الكلية عند إحساس بعض أفرادها بالقياس والاعتبار، ولا يجوز أن يقال في جميع المعقولات: إنها تثبت على خلاف حكم الحس والخيال. وإن أراد أحد بهذا اللفظ هذا المعنى لم يضر ذلك؛ إذ يكون التقدير أن الإنسان ينال بعقله من العلم ما لا يناله بحسه، وهذا لا نزاع فيه؛ لكن لا يقتضي ذلك تنافي المحسوس والمعقول؛ بل ذلك يوجب تصادقهما وموافقتهما. العلم والعقل يدرك من أفعاله ما لا يدركه الحس والخيال
الوجه الثاني- أن الحس يمكنه إدراك كل موجود، فما من شيء من الإدراك إلا ويمكن معرفته بالإحساس الباطن أو الظاهر كما قد نبهنا على ذلك فيما تقدم من هذه الأجوبة؛ بل هذا المنازع وأصحابه قالوا من ذلك ما هو من أبلغ الأمور في مسألة الرؤية وغيرها حيث يجوزون رؤية كل موجود؛ بل [ ص: 265 ] يجوزون تعلق الحواس الخمس من السمع والبصر والشم والتذوق واللمس بكل موجود، فلم يبق عندهم في الموجودات ما يمتنع أن يكون محسوسا، فلا يصح أن يقال: إنه يدرك بالعقل والعلم ما يمتنع إدراكه بالحس، إلا إذا قيد الامتناع بأن يقال ما لا يمكننا إحساسه في هذه الحالة، أو ما تعجز قدرتنا عن إحساسه ونحو ذلك، وإلا فإحساسه ممكن، والله تعالى قادر عليه، ويفعل من ذلك ما يشاء كما يشاء. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم قال أبو عبد الله الرازي: (أما تقرير هذا المعنى في أفعال الله تعالى فذلك من وجوه: