ومن أعجب العجب قوله عن "المشبهة" -وهم عنده الكرامية والحنابلة - أنهم وافقوه على ما ادعاه من أن ثم يحتج على ذلك بأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا من غير حدوث شيء في ذاته. وهو يعلم أن القول بحلول الحوادث في ذاته تعالى وتقدس هو شعار معرفة [ ص: 297 ] أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف الحس والخيال؛ الكرامية وأنهم متفقون على ذلك. وهذا مثل أن يقال عن المعتزلة : "وقد وافقونا على ". ثم إن القول بذلك هو مذهب أكثر أهل الحديث؛ بل قول أئمة أهل الحديث؛ وهو الذي نقلوه عن سلف الأمة، وأئمتها؛ وكثير من الفقهاء أن الله تعالى يحدث أفعال العباد بغير فعل منهم والصوفية أو أكثرهم؛ وفيهم من الطوائف الأربعة - الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية - من لا يحصي عدده إلا الله تعالى؛ وقد ذكر هو في غير موضع من كتبه أن يلزم كل الطوائف حتى القول بحلول الحوادث المعتزلة والفلاسفة، وذكر ذلك عن [ ص: 298 ] أبي البركات البغدادي صاحب "المعتبر" وهو من أعظم الفلاسفة المتأخرين قدرا، وأنه قال: (إن ألوهيته لهذا العالم لا تتم إلا بذلك ) فكيف يحكى الاتفاق على خلاف ذلك؟ !
[ ص: 299 ] فإن قال قائل: الفاعل منا وإن حدثت فيه حركة فالمحدث لها غيره، وخالق العالم لا محدث لفعله إلا هو، فهذا هو الفرق.
قيل: هذا حق، كما أن ذاتنا محدثة أحدثها غيرنا، وهو سبحانه قديم واجب الوجود رب كل شيء ومليكه هو الخالق وما سواه مخلوق؛ ولهذا كان السؤال عمن خلق الله؟ منتهى مسائل الشيطان التي يضل بها الإنسان، مع ظهور فسادها بالبرهان. والرازي لم يستدل بكونه فاعلا لما لم يفعله من غير محرك من خارج، وإنما استدل بكونه فاعلا من غير فعل في نفسه. وهذا هو الذي ينازعونه فيه. وهو لو استدل بالأول لم يصح؛ لأنها هي "مسألة وجود الصانع نفسه" وهو في هذا المقام مقصوده أن يبين أن أفعاله على خلاف حكم الحس والخيال: ليس مقصوده أن نفسه ثابتة على خلاف الحس والخيال.