[ ص: 149 ] [فصل]
قال تعالى : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا [مريم :58] ، وقال تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير [البقرة :285] .
وفي الحديث الصحيح وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه [البقرة :284] ، شق ذلك عليهم ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : «أتريدون أن تقولوا كما قال اليهود أو أهل الكتاب : سمعنا وعصينا ، قولوا : سمعنا وأطعنا » ، فقالوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير . فلما ذلت بها ألسنتهم أنزل الله الآية الأخرى : أنه لما أنزل الله آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى قوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال : قد فعلت . ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال : قد فعلت . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به كذلك إلى آخرها . [ ص: 150 ]
فهؤلاء المؤمنون لما سمعوا وأطاعوا خفف عنهم وحط عنهم الإصر الذي حمل على من كان قبلهم ، وأولئك لما عصوا واعتدوا وقالوا : قلوبنا غلف ، قال تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم [النساء :160] ، وقال تعالى : ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون [الأنعام :146] ، ثم قال : لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك [النساء :162] . إذ قد أخبر أن منهم من لا يعلم الكتاب إلا أماني ، ومنهم من يحرفه من بعد ما عقله ، ومنهم من يكذب ويكتم ويلوي لسانه ويكتب بيده ، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وهؤلاء وإن ذكر لهم علم فليسوا براسخين في العلم ، إذ الرسوخ في العلم يقتضي الثبات والاستقرار فيه ، وذلك مستلزم لاتباعه والعمل به ، كما قيل : . العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل
وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع وبينا تلازم العلم التام والعمل ، وأنهما حيث لم يتلازما فلضعف العلم ، مثل علم الرواية باللسان . وفي مراسيل : الحسن » . [ ص: 151 ] «العلم علمان ، علم في القلب وعلم على اللسان ، فعلم القلب العلم النافع ، وعلم اللسان حجة الله على عباده
وقال تعالى : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، وما يذكر إلا أولو الألباب [آل عمران :7] . وقد يحتج من يقف عند قوله : والراسخون في العلم كمجاهد ، ويذكر رواية عن وابن قتيبة ، على ذلك بأنه سبحانه لم يقل هنا : «والمؤمنون والراسخون في العلم يقولون آمنا به » كما قال في تلك الآية : ابن عباس لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك الآية . فلو لم يكن المقصود بالآية إلا الخبر عنهم بأنهم قالوا : آمنا به ، لأخبر بذلك عن جميع المؤمنين كما في نظائره ، مثل قوله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [الإسراء :82] ، وقوله : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم [التوبة :124 - 125] .
وقد يجيب الجمهور الذين يقفون عند قوله : إلا الله وقد نقل هذا المعنى عن أبي وابن مسعود وابن عباس والجمهور ، بأن هذا الموضع كقوله في سورة الحج : وعائشة فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ، والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، وإن الظالمين لفي شقاق [ ص: 152 ] بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم [الحج :52 - 54] ، فإنه ذكر الذين أوتوا العلم هنا فقط ، كما قال هناك : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا .
وإنما ذكر أهل العلم في هذين الموضعين لما فيه من الشبهة بما ألقاه الشيطان في أمنيته وما نزل [من] المتشابهات ، فكأن الخبر بالإيمان وأن الجميع من عند الله عن أهل العلم دليل على بطلان الشبهة والعلم بأنه لا حقيقة له ، ولا مانع أن يكون إذا قال هذا من هو راسخ في العلم أن لا يقوله غيره . يبين ذلك أنه على الوقفين إنما أخبر بقولهم فقط مهنئا بهم اختصوا بعلم تأويل القرآن ، وأخبر بقول : آمنا به كل من عند ربنا عنهم وحدهم ، مع أنه قول كل مؤمن ، إذ المقصود أن العلم يوجب هذا القول ، ومن لم يقله وإن كان له نصيب من العلم فليس براسخ فيه . فاليهود الذين أوتوا العلم فلم يؤمنوا بمحمد إيمانهم ليسوا راسخين في العلم .
وأما تلك الآية فإنما قال : لكن الراسخون في العلم منهم أي من أهل الكتاب والمؤمنون هم المؤمنون من العرب وغيرهم الذين ليسوا أهل كتاب ، فإن هؤلاء وإن كانوا بعد مبعث محمد صاروا أو بعضهم أرسخ في العلم من أولئك ، فإنهم لم يكونوا قبل سماع القرآن أهل علم بالكتاب ، كما كان عند أولئك علم علموه من غير القرآن . [ ص: 153 ]
وقد يقال : الوقفان كالقراءتين ، وقد يقرأ في المكان الواحد بالنفي والإثبات باعتبارين ، كقراءة من قرأ لتزول و لتزول منه الجبال ، وكالتي فيها الخبر والأمر . وعلى هذا فيكون هنا تأويلان : فتأويل يعلمه الراسخون ، وتأويل لا يعلمه إلا الله ، وهذا فيه جمع بين أقوال الصحابة والتابعين والأئمة رضي الله عنهم .
وقد تكلمنا على هذه الآية في غير هذا الموضع وذكرنا أن معنى لفظ التأويل الذي جاء به القرآن غير معناه في عرف المتأخرين ، وذكرنا الاصطلاحات فيه والفرق بينه وبين التفسير . وللإمام كتاب «الرد على الزنادقة والجهمية مما تأولت فيه من متشابه القرآن » ، تكلم على الآيات كلها وبين معناها ، فمعنى الخطاب وتفسيره يعلمه العلماء ، وهذا يسمى تأويلا ، وأما الحقائق الموجودة في الخارج مما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر ، كما قال : أحمد هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله [الأعراف :53] ، فتلك لا تعلم إلا بمشاهدتها . . . . . . . . . وليس لها في هذا العلم ما يناظرها من كل وجه ، فلا يعلم حينئذ إلا من بعض الوجوه ، فيجوز أن يكون لا يعلمه ، قال تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [السجدة :17] ، وإن علم أنها قرة أعين فإنها لا تعلم في الدنيا .