الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لكن تنازع المتأخرون من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما : هل على العامي أن يلتزم مذهب واحد بعينه من الأئمة المشهورين ، بحيث يأخذ بعزائمه ورخصه ، على وجهين ، والمشهور الذي عليه الأكثرون من [أصحاب] الشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم [أنه لا يجب] في كل شيء ، كما أنه ليس له أن يقلد في كل مسألة بمن يوافق غرضه ، وليس له أن يقلد في المسألة الواحدة إذا كان الحق له من لا يقلده إذا كان الحق عليه ، بل عليه باتفاق الأئمة أن يعدل بين نفسه وغيره في الأقوال ، فإذا اعتقد وجوب شيء أو تحريمه اعتقد ذلك عليه وعلى من يماثله . [ ص: 439 ]

مثال ذلك شفعة الجوار ، فإن للعلماء فيها قولين مشهورين ، فمن اعتقد أحد القولين فقد قال بقول طائفة من علماء المسلمين ، وليس لأحد ثبوت الشفعة إذا كان هو الطالب ، وانتفاؤها إذا [كان] هو المطلوب ، كما يفعله الظالمون أهل الأهواء ، يتبعون في المسألة الواحدة هواهم ، فيوافقون هذا القول تارة وهذا أخرى متابعة للهوى لا مراعاة للتقوى .

وقد ذم الله من يتبع الحق إذا كان له ، ولا يتبعه إذا كان عليه ، كما في قوله تعالى : وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين إلى قوله : ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [النور :48 - 52] .

وإذا كان جماهير العلماء لا يوجبون على أحد أن يلتزم قول شخص بعينه غير الرسول في كل شيء ، إذ في ذلك تنزيل ذلك الشخص منزلة الرسول ، وليس لأحد أن ينزل أحدا منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل قد قال الصديق الذي هو أفضل الخلق بعده : «أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم » . فالرجل إذا اتبع قول بعض الأئمة في مسألة ، وقول آخر في مسألة أخرى ، إما لظهور دليل ذلك له ، وإما لترجيح بعض العلماء الذين يسوغ له تقليدهم قول هذا في هذه وقول [ ص: 440 ] هذا في هذه لم يكن على فاعل ذلك ملام ، ولم يكن ذلك الذي التزم قول واحد بعينه أحسن حالا منه ، بل هذا أحسن حالا من ذلك ، لأن الأئمة الذين توفوا كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم لا يمكن كثير من العامة بل ولا أكثرهم أن يعرفوا مراتبهم في العلم والدين ، بل الخاصة من العلماء الذين لا هوى لهم قد يتعذر عليهم كثير من ذلك ، فكيف لمن يتبع الظن وما تهوى الأنفس ؟

وجمهور من اتبع الواحد من هؤلاء إنما اتبعه من جهة دين العادة ، لا من جهة دين العبادة ، فإن الرجل ينشأ على مذهب أبيه أو مالكه أو أهل مدينته أو أهل خطته ونحو ذلك ، ثم يحب ذلك وينتصر له تارة بعلم وتارة بلا علم ، وتارة مع حسن النية وتارة مع فسادها . ومن المعلوم أن الله قد ذم في القرآن من يتبع دين الآباء ويدع دين ما أنزل الله على الرسول ، فقال تعالى : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [البقرة :170] .

وإذا كان كذلك فثقة المقلد بمن يثق بعلمه ودينه من أهل العلم في ترجيح قول على قول أعظم من ثقته بترجيح ما يقوله [بعض القا] ئلين مطلقا على ما يقوله الآخر ، وكذلك ثقة المستدل [بما يقتضيه] الدليل أعظم من ثقته بذلك . فمن كان قادرا على الاستدلال الذي يوصله إلى معرفة الحق في أعيان المسائل كانت هذه الطريق خيرا له ، [و] هي الواجبة عليه دون تقليد شخص واحد في كل شيء ، ومن يكن قادرا على [ ص: 441 ] التقليد ، فالتقليد المفضل لمن يثق بعلمه ودينه أقوى من التقليد العام المتضمن لفضل شخص مطلقا ، مع أن هذا العالم ينفع إذا لم يكن أخص منه . فمن علم أنه أعلم وأدين كانت الثقة بأقواله أقوى ، إذا لم يعلم رجحان أحد القولين . وتقليد الأعلم والأدين إما واجب وإما مستحب .

وجماع هذا الأصل أن الله تعالى يقول : فاتقوا الله ما استطعتم [التغابن :16] ، فمن كان من أهل الإيمان واجتهد في طاعة الله ورسوله علما وعملا فلا ملام عليه ، بل يغفر الله له خطأه ، ويثيبه على صوابه .

وقد ظهر بما ذكرناه أن قول القائل : «لا بد لكل أحد من التقليد لأحد هذه [المذاهب] الأربعة » هو قول طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد ، لكن الجمهور على خلافه ، فإن هذا لا يجب على كل أحد . ومن قال : «أنا متقيد بالكتاب والسنة » لم يجز لأحد أن يقول له : أنت مارق ، ومن قال له ذلك أدب على ذلك ؛ فإن المروق هو الخروج ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الخوارج : «يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية » . وهؤلاء المارقون مرقوا من السنة وخالفوا الجماعة ، فمن تقيد بالكتاب والسنة كان متبعا لا مبتدعا ، ومطيعا لا عاصيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية