وكذلك الصابئة والمتفلسفة الذين يقولون بتولد الأرواح التي هي العقول والنفوس ، والعرب الذين كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، والنصارى واليهود الذين يجعلون المسيح وعزيرا ابن الله ، كل هؤلاء يقرون بأنه هو الرب الأعلى الفاعل المدبر لما جعلوه ولده وابنه .
والقرآن قد اشتمل على كقوله : ذم المشركين به والذين جعلوا له ولدا وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم [الأنعام :100] ، وقوله : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك [الإسراء :111] ، وقوله : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا [الفرقان :2] ، وقوله : لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [ ص: 175 ] [الإخلاص :3 - 4] .
وكل هؤلاء الذين وجدوا في العالم وكفرهم القرآن ممن جعل له ولدا أو شريكا لم يثبتوا من يساويه من جميع الجهات . . . . . . . وقد يعبدون ويعتقدون في هؤلاء الشركاء أنهم شفعاء إليه ، أو أنهم يقربونهم إليه زلفى ، أو أنهم ينفعونهم ويضرونهم لمعان فيهم ، أو يهوون عبادتهم ، كالذي قال الله فيه : أرأيت من اتخذ إلهه هواه [الفرقان :43] .
وهذا الاعتقاد الذي اعتقدوه والهوى الذي أحبوه كما قال الله فيهم : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى [النجم :23] ، فكانوا جاهلين باعتقادهم ظالمين بهواهم ، أفسدوا قوتي النفس العلمية النظرية والعملية الإرادية .
وإذا كان المقصود بالشهادة سلب ألوهية ما سوى الله عن القلب حتى لا يعبد الإنسان إلا الله وحده لا شريك له ، ، ولهذا تنوع الشرك ، فكل قوم من المشركين لهم إله أو آلهة أشركوها به غير إله الآخرين ، مثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى والكوكب والشعرى والشمس والقمر والمسيح وعزير وغير ذلك مما ذكره القرآن بعينه أو بنوعه . [ ص: 176 ] فمن أشرك به شيئا من مخلوقاته من كوكب أو قمر أو شمس أو ملك أو نبي أو وثن فهو مشرك شركا خاصا
ومن عبد هذه الآلهة كلها أو جوز عبادتها فشركه أعظم ، ومن ، فهؤلاء أنكر الله وعبد ما سواه فهو أكفر وأكفر . . . . . . . ، فإن من هؤلاء من يقصد عبادة الله وحده . . . . في معرفته ، ويقصد اتباع الرسول ، وإن غلط في معرفة دينه ، فهم من جهة ما وافقوا فيه الرسول خير من الكفار ، ومن جهة ما خرجوا به عن دينه قد يكون بعضهم شرا من بعض الكفار . الاتحادية الذين يزعمون أن الله هو الوجود هم يشركون به جميع خليقته إن أقروا بوجوده وزعموا أن وجوده فاض عليها ، وإن زعموا أنه هو الوجود المطلق ، أو أنه هو عين الموجودات فهم مشركة معطلة شركا عاما
ولهذا يذكر عن أن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا ، وقال في «الفصوص » في فص نوح : لما عظم قومه وذكر أنهم كانوا عارفين فقالوا : ابن العربي لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا [نوح :23] ، فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء ، فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله . وفي المحمديين : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه [الإسراء :23] أي حكم ، فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد ، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة ، وكالقوى المعنوية [ ص: 177 ] في الصورة الروحانية . فما عبد غير الله في كل معبود . فالأدنى من تخيل فيه الألوهية ، والأعلى ما تخيل بل قال : هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه ، فلا يقتصر . وله من هذا الجنس كلام كثير .
وحدثني ابن سالار عن ابن إسرائيل أن الحريري قال له : مذهب من مذهب صحيح ، فأنكرت ذلك ، فأشار إلى أن الصانع هو الصنع ، فوافقه على ذلك ، وأن نفى الصانع ابن سالار حكى ذلك للأيكي فاستحسن ذلك جدا ، وقال له : يا ناصر الدين! من أين لك هذه الفوائد الدقيقة ؟ أو كلاما هذا معناه .
ولهذا كلاهما وطائفتهم تستحسن الغناء الذي ينبت النفاق في القلب ، حتى إنهم يشتغلون به عن الصلوات في مواقيتها ، مع أن هذا قد يفعله من عقيدته في التوحيد صحيحة . فأما هؤلاء ، ولا يدينون دين الحق . بل هؤلاء القوم أعظم شركا بالله من النصارى وعباد الأصنام ، فإن أولئك أشركوا به شيئا معينا من مخلوقاته ، وهؤلاء أشركوا به كل المخلوقات . وإذا عبدوا الوجود المطلق فهو القدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات ، وعبادة القدر المشترك هو عين الإشراك به ، لكن زادوا على إشراك وجود كل ما سواه به أنهم أنكروا حقيقته التي هي هو ، فجمعوا بين نفيه وجحوده وبين الشرك به كما بينا . [ ص: 178 ] فاتحادية في اعتقادهم إباحية في أفعالهم ، أخبث من شرار النصارى الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله
وهذا قول القونوي والتلمساني وابن سبعين وغيرهم ممن لا يجعل له وجودا متميزا عن وجود مخلوقاته ، بخلاف قول الذي يجعل له وجودا متميزا ، ويقول : إن ذلك الوجود فاض على الممكنات . فهذا القول أمثل ، ولهذا هو عند الاتحادية أبعد عن التحقيق . هذا إذا اقتصروا على عبادة الوجود المطلق ، وأما إن عبدوا الوجود كله المطلق والمعين كما هو قول ابن العربي التلمساني والبلياني وابن سبعين فقد أشركوا به جميع الكائنات المطلق والمعين . وهذا القول الثالث أخس أقوالهم ، وهو عند غالبهم عين التحقيق .